وقد تبيّن بذلك أنّ الغلط من جهة اللسان ، والنسيان من جهة الجنان ، ولا يقع بدل النسيان أيضا من فصيح ، ولا فيما يصدر عن روية ، وابن مالك وكثير من النحاة لم يفرّقوا بين بدل الغلط والنسيان ، فسمّوا النوعين بدل غلط ، وإنّما حكمنا بإهمال المصنّف لبدل النسيان مع إمكان إدخاله تحت بدل الغلط كما فعل الاكثرون ، لأنّ المصنّف (ره) اعتذر في حاشية هذا المتن عند عدم ذكره بأنّه غير مشهور ، ولا يقع من الفصحاء ، فقرّرنا كلامه ، وإنّما لم يقع بدل الغلط من الفصحاء ، لأنّه غير فصيح.
قال البدر الدمامينيّ : ولا أدري لأيّ معنى جزموا بأنّ بدل الغلط غير فصيح ، مع أنّ النسيان لا ينافي الفصاحة ، أللهمّ إلا أن يكون المراد أنّهم تتبّعوا كلام الفصحاء ، فلم يجدوا بدل الغلط فاشيا فيه ، فحكموا بأنّه غير فصيح نظرا إلى هذا المعنى ، وليس المراد أنّ الإنسان إذا سبق لسانه إلى ذكر ما لم يقصده فتنبّه فذكر المقصود يحكم أنّ لفظ المذكور على سبيل السهو غير فصيح ، انتهى. وقال بعضهم : الظاهر أنّ المراد بالفصاحة البلاغة ، فإنّ الغلط ينافي البلاغة ظاهرا دون الفصاحة باعتبار انتفاء المطابقة لمقتضي الحال ، انتهى. وحكم بتعيين ذلك بعض المحقّقين ، وهو حسن.
تنبيهات : الأوّل : قضية إطلاق المصنّف أنّ بدل الغلط يصحّ في النثر ، هو قول سيبويه والأكثرين ، وقال غيره : إنّه وجد في الشعر دون النثر ، وجوّزه بعضهم في النثر دون الشعر ، لأنّ الشعر في الغالب إنّما يقع عن تروّ وفكر ، وهذا نوع غريب أن يجوز شيء في النثر ، ولا يجوز في الشعر ، وإنّما المعروف عكس ذلك.
وقال ابن بابشاذ في شرح الجمل : لا يقاس على بدل الغلط ، لأنّه يقع على غير قصد ، انتهى ، وهو حسن. وقال خطاب (١) : إنّ بدل الغلط لم يقع في نثر ولا نظم ، وإنّه تطلّبه فلم يجده ، وإنّه طالب به من لقيه ، فلم يعرفه ، واستدلّ المثبتون له بقول ذي الرمة (٢) [من البسيط] :
٥٨٩ ـ لمياء في شفتيها حوّة لعس |
|
وفي اللّثات وفي أنيابها شنب (٣) |
فإنّ الحوّة : السواد ، والعس : سواد مشوب بحمرة ، وقال بعضهم : إنّه محمول على التقديم والتأخير ، أي في شفتيها حوّة ، وفي لثاتها لعس ، وأيّده بعضهم بأنّ ذا الرمة
__________________
(١) خطاب بن يوسف ، كان من جلّة النحاة ومحققيهم والمتقدّمين في المعرفة بعلوم اللسان على الإطلاق ، وهو صاحب كتاب الترشيح ، ينقل عنه أبو حيّان وابن هشام كثيرا. مات بعد ٤٥٠ ه ق. بغية الوعاة ١ / ٥٥٣.
(٢) أبو الحارث غيلان بن عقبه المعروف بذي الرّمة (٧٧ ه ـ ١١٧ ه). كان شعره الغزليّ حافلا بالرّقة والعذوبة واللين. الجامع في تاريخ الأدب العربي ١ / ٤٣٧.
(٣) اللغة : حوّة : لون يخالطه الكلمته مثل صدء الحديد ، لعس : سواد مستحسن في باطن الشفة. شنب : جمال الثعر وصفاء الأسنان.