أصل الدحرجة والتفضيل باعتبار مجرّد الشدّة باقيا على معناه التفضيلي ، وذلك ممنوع لجواز أن يكون في هذه الحالة مستعملا في أصل الفعل مجرّدا عن معنى الزيادة ، وحينئذ يكون الكلام مساويا للغرض من التفضيل قطعا ، فتدبّر.
تنبيهات : الأوّل : قال بعض المحقّقين : الظاهر أنّه لا يختصّ التوصّل إلى التفضيل ممّا ذكر بصيغة أفعل ، بل يصحّ التوصّل بغيره أيضا ، نحو : زيد زائد استخراجا ، بل هو أوفق بالمقصود ، إذ المقصود جعله زائدا في نفس الاستخراج ، لا زائدا في زيادة الاستخراج ، انتهى.
الثاني : لا يختصّ التوصّل إلى التفضيل بما فقد بعض الشروط ، بل يتأتّي فيما استوفى الشروط ، فتقول : زيد أشدّ ضربا من عمرو ، وهو واضح.
وقولهم : «أحمق من هبنّقة شاذّ» ، فلا يقاس عليه ، هبنّقة بفتح الهاء والباء الموحّدة والنون المشدّدة والقاف ، لقب ذي الودعات ، يزيد بن ثروان ، وإنّما قيل له : ذو الودعات ، لأنّه جعل في عنقه قلادة من ودع (١) وعظام وخزف مع طول لحيته فسئل؟ فقال : لئلّا أضلّ : فسرقها أخوه في ليلة ، وتقلّدها ، فأصبح هبنّقة ورأها في عنقه ، فقال : أخي أنت أنا ، فمن أنا ، فضرب لحمقه المثل. ومن حمقه أنّه كان في جماعة ، فهبّت عليهم ريح سوداء مخوفة ، فجعل كلّ منهم يعتق رفيقا ، وبعضهم يتصدّق بضيعته. فقال هبنّقة : أللهمّ إنّك تعلم أنّي لا أملك شيئا أتصدّق به ، ولكن زوجتي طالق لوجهك الكريم ، فأخذ الضحك بالجماعة ، واشتغلوا عمّا هم من الخوف.
وقوله (ع) في وصف ماء الكوثر : أبيض من اللبن وأحلي من العسل (٢) ، نادر ، ولا يقاس عليه أيضا خلافا للكوفيّين كما اقتضاه إطلاق منعه فيما مرّ ، ومثله قول الراجز [من الرجز] :
٦٤٠ ـ جارية في ذرعها الفضفاض |
|
أبيض من أخت بني أباض (٣) |
هذا إن حمل على الندرة والشذوذ دون التأويل ، قال ابن مالك في شرح الكافية : وجائز أن يكون أبيض مبنيّا من قولهم : باض الشيء الشيء بيوضا ، إذا فاقه في البياض ، فالمعنى على هذا أنّ غلبة ذلك الماء غيره من الأشياء المبيضة أكثر من غلبة بعضها بعضا ، وأبيض بهذا الاعتبار أبلغ من أشدّ بياضا. قال : ويجوز أن يكون من المذكورة بعد أبيض
__________________
(١) الودع : خزر بيض جوف ، في بطونها شقّ كشقّ النواة ، تتفاوت في الصغر والكبر. الواحدة : ودعة.
(٢) تمام الحديث : أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وأحلى من العسل. صحيح البخاري ، ٤ / ٥٠٤ ، رقم ١٤٣٨.
(٣) هو لرؤبة ، اللغة : الدرع : القميص ، الفضفاض : الواسع ، وأخت بني أباض كانت معروفة بالبياض.