هذا مذهب البصريّين ، ومنع الكوفيّون من نحو المثال الثاني لاستلزامه الإضمار قبل الذكر. فذهب الكسائيّ وهشام والسهيليّ وابن مضاء إلى وجوب حذف الفاعل من الأوّل للدلالة عليه تمسّكا بظاهر قوله [من الطويل] :
٨١٠ ـ تعفّق بالأرطى لها وأرادها |
|
رجال فبذّت نبلهم وكليب (١) |
إذ لم يقل تعفّقوا ، ولا أرادوا ، قال في التصريح : ويمكن أن يجاب عنه بأنّه أعمل الثاني ، ولم يقل : تعفّقوا على لفظ الجمع ، لأنّه يجوز أن ينوى مفردا على مذهب البصريّين باعتبار تأويله بالمذكور ، انتهى. وذهب الفرّاء إلى أنّه يجب إعمال الأوّل فرارا من حذف الفاعل ومن الإضمار قبل الذكر ، وعنه قول آخر حكاه في البسيط : إنّه يقتصد في مثل ذلك على السماع ، ولا يكون قياسا.
قال الرضيّ : والنقل الصحيح عن الفرّاء في مثل هذا أنّ الثاني إن طلب أيضا للفاعلى ة ، نحو : ضرب وأكرم زيد ، جاز أن يعمل العالمان في المتنازع ، فيكون الاسم الواحد فاعلا للفعلين ، لكن اجتماع المؤثّرين التامّين على أثر واحد مدلول على فساده في الأصول ، وهم يجرون عوامل النحو كالمؤثّرات الحقيقيّة. قال : وجاز أن يؤتى بفاعل الأوّل ضميرا بعد المتنازع ، نحو : ضربني وأكرمني الزيدان هما ، جئت بالمنفصل لتعذّر المتّصل بلزوم الإضمار قبل الذكر ، وإن طلب الثاني للمفعوليّة مع طلب الأوّل لأجل الفاعلية ، نحو : ضربني وأكرمت زيدا هو ، تعيّن عنده الإتيان بالضمير بعد المتنازع كما رأيت ، كلّ هذا حذرا ممّا لزم البصريّين والكسائيّ من الإضمار قبل الذكر وحذف الفاعل ، انتهى.
والصحيح ما ذهب إليه البصريّون بشهادة السماع ، قال الشاعر [من الطويل] :
٨١١ ـ جفوني ولم أجف الأخلاء إنّني |
|
لغير جميل من خليليّ مهمل (٢) |
وقال [من البسيط] :
٨١٢ ـ هوينني وهويت الغانيات إلى |
|
أن شبت فانصرفت عنهنّ آمالى (٣) |
وإذا ثبت ذلك عن العرب وجب المصير إليه.
تنبيه : ما عزوته إلى الكسائيّ ومن وافقه من وجوب حذف الفاعل هو المشهور ، وفي شرح الإيضاح في باب الاستثناء حذف الفاعل لا يجوز عند أحد من البصريّين ولا الكوفيّين ، وما حكاه البصريّون عن الكسائيّ أنّه يجيز حذف الفاعل في قولك : ضربني و
__________________
(١) هو لعلقمة الفحل. اللغة : تعفّق : تعوّذ ، الأرطى : شجر من شجر الرمل.
(٢) البيت مجهول القائل. اللغة : الاخلاء : جمع خليل بمعنى صديق ، مهمل : اسم فاعل من الإهمال بمعنى الترك.
(٣) لم ينسب البيت إلى قائل معيّن. اللغة : هوي : أحبّ ، الغانيات : جمع الغانية ، وهي المرأة الغنيّة بحسنها وجمالها عن الزينة.