فإن قلت : كيف شبه به وقد وجد هو بغير أب ، ووجد آدم لغير أب وأمّ ، قلت : هو مثله في أحد الطرفين ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به ، لأنّ الممّاثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، لأنّه شبه به في أنّه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرّة ، وهما في ذلك نظيران ، ولأنّ الوجود من غير أب وأمّ أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب ، فشبّه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم ، وأحسم لمادّة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب ممّا استغربه.
وعن بعض العلماء أنّه أسر بالروم ، فقال لهم : لم تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنّه لا أب له ، قال : فآدم أولى ، لأنّه لا أبوين له ، قالوا : كان يحيي الموتى ، قال : فحزقيل أولى ، لأنّ عيسى أحيا أربعة نفر ، وحزقيل أحيا ثمانية آلاف ، فقالوا : كان يبرئ الاكمة والأبرص : قال فجرجيس (١) أولى ، لأنّه ذبح وأحرق ثمّ قام سالما ، انتهى كلام الكشاف.
وما وقع لابن هشام في المغني من أنّ خلقه وما بعده تفسير لمثل آدم ، لا باعتبار ما يعطيه ظاهر لفظ الجملة من كونه قدّر جسدا من طين ، ثمّ كوّن ، بل باعتبار المعنى ، أي إنّ شأن عيسى كشأن آدم في الخروج عن مستمرّ العادة ، وهو التولّد بين الأبوين ، ليس كما ينبغي ، بل خلقه وما بعده تفسير لمثل آدم قطعا باعتبار ما يعطيه ظاهر اللفظ ، لا باعتبار المعنى الّذي ذكره ، والظاهر أنّه أراد نقل كلام الزمخشري ، فلم يوف بالمقصود منه كما تري. قال الزمخشريّ : إنّما جعل الجملة مفسّرة لوجه الشبه لا للمشبه به ، فيحتاج حينئذ إلى أن يقال : وجه الشبه المستفاد من هذه الجملة ليس هو ما يعطيه لفظها من تقدير آدم جسدا من طين ، ثمّ تكوينه ، فإنّ هذا ليس مشتركا بين آدم وعيسى (ع) ، وإنّما وجه الشبه ما يعطيه معنى الجملة من الخروج عن مستمرّ العادة من التولّد بين أبوين ، وهذا قدر مشترك بينهما.
«والأصحّ أنّه لا محلّ لها» أي للجملة المفسّرة من الإعراب ، وهو مذهب الجمهور ، سواء كان ما يفسّره له محلّ أم لا ، و «قيل» : والقائل أبو على الشلوبين بفتح الشين المعجمة وسكون الواو وكسر الموحدّة وسكون المثنّاة التحتّى ة وبعدها نون ، هكذا ضبطه ابن خلكان ، إلا أنّه جعل بياء النسبة ، فقال : أبو على عمرو بن محمد بن عمر المعروف بالشلوبين الأشبيلي ، انتهى.
وهو خلاف المشهور في الألسن ، ثمّ قال : هذه النسبة إلى الشلوبين ، وهي بلغة أهل الأندلس : الأبيض الأشقر ، قال : إنّ الجملة المفسّرة «بحسب ما تفسّره» فإن كان له محلّ من الإعراب فكذلك هي ، وإلا فلا ، فالجملة في نحو : زيدا ضربته ، لا محلّ لها ، إذ
__________________
(١) حزقيل وجرجيس كانا من أنبياء إليهود.