تنبيهات : الأوّل : صريح كلامه أنّ بل يعطف بها مطلقا ، سواء كانت بعد الإيجاب أو غيره ، وهو مذهب البصريّين ، منع ذلك الكوفيّون بعد غير النفى وشبهه. قال هشام (١) : محال ضربت زيدا بل إيّاك. قال أبو حيّان : وهذا من الكوفيّين مع كونهم أوسع من البصريّين فى اتّباع شواذّ العرب دليل على أنّه لم يسمع العطف بهما فى الإيجاب أو على قلّته ، ولا يعطف بها بعد الاستفهام وفاقا.
الثانى : قضية إطلاقه أنّ بل تعطف الجمل كما تعطف المفردات ، والصحيح أنّ الداخلة على الجملة حرف ابتداء لا عاطفة ، وأنّها لا تكون عاطفة ، إلا إذا تلاها مفرد ، ومعناها الإضراب مطلقا ، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إمّا الإبطال نحو : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء / ٢٦] أى بل هم عباد ، ونحو : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) [المومنون / ٧٠] وإمّا الانتقال من غرض إلى آخر نحو : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) [الأعلى / ١٦ و ١٥ و ١٤] ، ونحو : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ* بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) [المومنون / ٦٣ و ٦٢].
وذكر ابن مالك في شرح كافيته أنّها لا تقع في التتريل إلا على هذا الوجه ، ووهمه في ذلك جماعة بدليل ورودها للإبطال في الأيتين السابقتين. قال الدمامينىّ : ومجمل هذا الكلام عند ابن مالك أنّها لا يقع بيقين في القرآن إلا للتنبيه على انتفاء أمر واستئناف غيره ، فلا يتمّ توهيمه بتينك الآيتين الشريفتين ، إذ ليس الإضراب على وجه الإبطال متعيّنا في شيء منهما لاحتمال أن يكون الإضراب فيهما عن القول لا عن القول المحكيّ ، ولا شكّ أن الإخبار بصدور ذلك منهم ثابت ، لا يتطّرق إليه الإبطال بوجه ، فيكون الإضراب فيهما لمجرّد الانتقال من أمر إلى استئناف آخر ، انتهى. وسبقه إلى ذلك ابن الصائغ في حاشية المغنى.
الثالث : علم ممّا تقرّر أنّ بل تكون للاستدارك كالإضراب. قال ابن هشام في المغنى : والنحويّون يقولون : بل حرف إضراب ، والصواب حرف استدارك وإضراب ، فإنّها بعد النفي والنهي بمترلة لكن سواء.
الرابع : تزاد لا قبل بل لتوكيد الإضراب بعد الإيجاب كقوله [من الخفيف] :
٩٦٥ ـ وجهك البدر لا بل الشّمس لو لم |
|
يقض للشمس كسفه أو أفول (٢) |
__________________
(١) لعلّه هشام بن معاوية الضرير أبو عبد الله النحويّ الكوفيّ ، أحد أعيان أصحاب الكسائيّ ، صنّف : مختصر النحو ، الحدود ، القياش ، توفّي سنة ٢٠٩ ه ، بغية الوعاة ٢ / ٣٢٨.
(٢) لم يسمّ قائله. اللغة : الكسفة : فعلة من الكسوف وهو التغيير إلى السواد ، الأفول : الغروب.