وهذه الأفعال وإن كانت «تعمل عمل كان» ، إلا أنّها تخالفها في بعض الأحكام ، فمن ذلك إنّ خبر كان قد يكون مفردا ، وقد يكون جملة اسميّة أو فعلية ، وهذه الأفعال «أخبارها جمل» فعلية «مبدوة بمضارع» دائما ، كما مرّ في الأمثلة المذكورة كلّها ، وشذّ مجئ خبري كاد وعسى مفردا منصوبا كقوله [من الطويل] :
٢٠٥ ـ فأبت إلى فهم وما كدت آئبا |
|
وكم مثلها فارقتها وهي تصفر (١) |
وقوله الآخر [من الرجز] :
٢٠٦ ـ أكثرت في العذل ملحّا دائما |
|
لا تكثرن أنّي عسيت صائما (٢) |
وقولهم في المثل : عسى الغوير أبؤسا (٣). قال ابن هشام : كذا قالوا ، والصواب أنّه ممّا حذف فيه الخبر ، أي يكون أبؤسا ، وأكون صائما ، لأنّ في ذلك إبقاء لهما على الاستعمال الأصليّ ، ولأنّ المرجوّ كونه صائما لا نفس الصائم ، انتهى.
وما قاله من التقدير يأتي في البيت الأوّل أيضا ، كما هو ظاهر ، وعليه فلا شذوذ ، وأمّا فطفق مسحا فالخبر محذوف ، أي يمسح مسحا ، وليس هو مسحا كما توهّمه بعضهم ، وربّما جاء خبر جعل جملة اسمية ، كقوله [من الوافر] :
٢٠٧ ـ وقد جعلت قلوص ابني سهيل |
|
من الأكوار مرتعها قريب (٤) |
أو فعلية غير مبدوّة بمضارع ، كقوله ابن عباس (٥) : فجعل الرجل إذا لم يسطع أن يخرج أرسل رسولا. قال ابن هشام في شرح الشواهد : وهذا لم أر من يحسن تقديره ، ووجهه أنّ إذا منصوبة بجوابها على الصحيح ، والمعمول مؤخّر في التقدير عن عامله فأوّل الجملة في الحقيقة أرسل ، فافهموه ، انتهى.
وفيه ردّ على ابن مالك حيث قال في التسهيل : أو فعلية مصدّرة بإذا. قال ابن هشام في الحواشي : الصواب أن يقال : أو جملة فعلية فعلها ماض ، فإنّ هذا هو محطّ الشذوذ ، وأمّا نفس إذا فلا وجه لكونها مرجعا للشذوذ. ولهذا لم يقل أحد فيما علمنا أن قوله [من البسيط] :
٢٠٨ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني |
|
ثوبي ... (٦) |
__________________
(١) هذا البيت لتأبّط شرأ. اللغة : أبت : رجعت ، فهم : اسم قبيلته ، تصفر : أراد تتأسّف وتتحزّن.
(٢) هو لرؤبة بن العجّاج بن رؤبة التميمي.
(٣) جاء في لسان العرب ، قال ثعلب : أتي عمر بمنبوذ ، فقال : عسى الغوير أبؤسا أي عسى الريبة من قبلك. وقال ابن الأثير : هذا مثل قديم يقال عند التهمة. لسان العرب ج ٣ ص ٢٩٤٩ (غور).
(٤) هو من أبيات الحماسة. اللغة : القلوص : الشابة من النوق ، الأكوار : جمع كور ، الرحل ، أو هو الرّحل بأداته.
(٥) ابن عباس (عبد الله) (ت ٦٨ / ٦٨٧) : ابن عم النبي (ص) روى الكثير من حديث الرسول. المنجد في الأعلام. ص ١٠.
(٦) تقدّم برقم ٢٠٠.