فإن قلت : ما المعين لحمل النداء هنا على نداء القريب؟ قلت : القرائن الموجودة قوله في هذه القصيدة يخبر بحاله مع هذه المرأة [من الطويل] :
٩١١ ـ تقول وقد مال الغبيط بنا معا |
|
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل |
فقلت لها سيري وأرخي زمامه |
|
ولا تبعديني من جناك المعلّل (١) |
الغبيط بالغين المعجمة والظاء المهملة كرغيف رحل يشدّ عليه هودج المرأة ، والجني ما يجنى ، أي يقتطف من الثمرة ، عبّر به هنا عن اللّذة الّتي ينالها من هذه المرأة على طريق الاستعارة ، والمعلّل ترشيح ، والتعليل جني الثمرة مرّة بعد أخرى.
«والمتوسّط» أي ويرد لندائه ، وهذا لم يقل به أحد ، وإنّما هو عندهم لنداء القريب فقط ، نعم نقل ابن الخباز في شرحه على الدرّة الألفية عن شيخه أنّ الهمزة للمتوسّط ، وأنّ الّذي للقريب يا ، والمصنّف جمع بين القولين ، فجعلها للقريب والمتوسّط معا. قال ابن هشام : وما نقله ابن الخباز خرق لإجماعهم ، قالوا وذلك من وجهين : دعواه أنّ الهمزة للمتوسّط ، وإنّما هي عندهم لنداء القريب ، والثاني كون القريب لم يوضع لندانه غير يا ، وقول المصنّف أيضا خرق للإجماع ، لكنّه من وجه واحد.
قال الدمامينيّ : والقدح بخرق إجماع النحاة مبنيّ على أنّ إجماعهم في الأمور اللغويّة معتبر معيّن أتباعه ، ووقع فيه لبعض العلماء تردّد. وفي شرح مختصر ابن الحاجب الأصولي للشيخ بهاء الدين السبكيّ نقل بعض العلماء الإجماع على اعتبار الإجماع في الأمور اللغويّة ، مثل كون الواو للجمع المطلق ، وهذا الإشكال فيه إذا صدر من المجتهدين ، أمّا إجماع النّحاة الّذين عليهم المعوّل في علم العربيّة ، ولم يبلغوا رتبة الاجتهاد ، فالقياس أنّ إجماعهم لا يعتبر ، وفيه نظر.
وقد رأيت في الخصائص لابن جنّي : إعلم أنّ إجماع أهل البلدين أنّما يكون حجّة ، إذا لم يخالف المنصوص أو المقيس على المنصوص ، وإلا فلا ، لأنّه لم يرد في كتاب ولا سنّة أنّهم لا يجتمعون على الخطأ ، كما جاء النص بذلك في كلّ الأمّة ، وإنّما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة ، فكلّ من فرق له عن علّة صحيحة كان خليل نفسه ، إلا أنّا لا نسمح بمخالفة الجماعة الّتي طال بحثها ، انتهى ملخصا. وفي الاقتراح بعد كلام ابن جنيّ في الخصائص ، وقال غيره إجماع النحاة على الأمور اللغويّة معتبر خلافا لمن تردّد فيه ، وخرقه ممنوع ، ومن ثمّ ردّ ، انتهى.
__________________
(١) اللغة : عقرت بعيري : أدميت ظهره ، أرخي : أرسلي. جهل العشيقة بمترلة الشجرة ، وجعل ما نال من عناقها وتقبيلها وشمها بمترلة الثمر.