فهمه فلا يستحيل كما في قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة / ١١٦] ، فهو استفهام حقيقيّ ، طلب به إقرار عيسى (ع) في ذلك المشهد العظيم بأنّه لم يقل ، ليحصل فهم النصارى ذلك ، فيتقرّر عندهم كذبهم فيما ادّعوه ، انتهى ، فتأمّل.
ويرادف الاستفهام الاستخبار ، وقيل : الاستخبار ما سبق أوّلا ، ولم يفهم حقّ الفهم ، فإذا سئلت عنه ثانيا كان استفهاما ، حكاه ابن فارس (١) في فقه اللغة ، والهمزة أصل أدواته ، وما عداها نائب عنها ، قاله ابن مالك في المصباح.
فيطلب «بها» أي الهمزة «التصور» أي إدراك غير النسبة ، و «التصديق» أي إدارك وقوع النسبة ، وهو التصديق الإيجابيّ ، أولا وقوعها ، وهو التصديق السلبيّ ، فطلب تصوّر المسند إليه ، «نحو : أزيد في الدار أم عمرو ، وأدبس (٢) في الإناء أم عسل ، فإنّك عالم بكون شخص في الدار وشيء في الإناء ، وإنّما تطلب تعيينه ، وطلب تصوّر المسند نحو : أفي الدار زيد أم في السوق ، وأ في الخابية (٣) دبسك أم في الزّق (٤) ، فإنّك تعلم بأنّ زيدا محكوم عليه بالكينونة في الدار أو في السوق ، وأنّ الدبس محكوم عليه بالكينونة في الخابية أو الزّق ، وإنّما المطلوب تعيين ذلك.
هذا قول الجمهور ، وقال السّيّد الشريف : القول بأنّ الهمزة في مثل قولك : أدبس في الأناء أم عسل؟ لطلب تصوّر المسند إليه أو المسند أو غيرهما مبنيّ على الظاهر توسّعا ، والتحقيق أنّها لطلب التصديق أيضا ، فإنّ السائل قد تصوّر الدبس والعسل بوجه ، وبعد الجواب لم يزد له في تصوّرهما شيء أصلا ، بل بقي تصوّرهما على ما كان ، فإن قيل :
التصديق حاصل له حال السؤال ، فكيف يطلب؟ أجيب بأنّ الحاصل هو التصديق بأنّ أحدهما لا بعينه في الإناء ، والمطلوب بالسؤال هو التصديق (٥) بأنّ أحدهما بعينه فيه ، وهذان التصديقان مختلفان بلا اشتباه ، إلا أنّه لمّا كان الاختلاف بينهما باعتبار تعيّن المسند إليه في أحدهما وعدم تعيّنه في الآخر ، وكان أصل التصديق حاصلا ، توسّعوا ، فحكموا بأنّ التصديق حاصل ، وأنّ المطلوب هو تصوّر المسند إليه أو المسند قيد من قيوده ، انتهى.
وطلب التصديق نحو : أقام زيد؟ وأ زيد قائم؟ فإنّك عالم بأنّ بينهما نسبة إمّا بالإيجاب أو السلب وتطلب تعيينهما ، ولعلّ المصنّف إنّما لم يمثّل للتصديق نظرا إلى ذلك التحقيق ، فتأمّل.
__________________
(١) أحمد بن فارس من أئمة اللغة والأدب ، من تصانيفه «مقاييس اللغة» «المحمل» «الصاحبي في فقه اللغة» له شعر حسن ، مات سنة ٣٩٥ ه ، الأعلام للرزكلي ١ / ١٨٤.
(٢) الدبس : عسل التمر.
(٣) الخابية : وعاء الماء الّذي يحفظ فيه (ج) الخوابي.
(٤) الزق : وعاء من جلد يجز شعره ولا ينتف للشراب وغيره (ج) أزقاق.
(٥) سقطت «المطلوب بالسؤال هو التصديق» في «ح».