منه قوله تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) [المومنون / ١٤] ، فالفاءات في ذلك بمعنى ثمّ لتراخي معطوفها ، وتارة بمعنى الواو كقوله [من الطويل] :
٩٨٠ ـ ... |
|
... بين الدخول فحومل (١) |
وزعم الأصمعىّ أنّ الصواب روايته بالواو ، لأنّه لا يجوز جلست بين زيد فعمرو ، وأجيب بأنّ التقدير بين مواضع الدخول فمواضع حومل ، كما يجوز جلست بين العلماء فالزهّاد ، وقال بعض البغداديّين : الأصل ما بين ، فحذف ما دون بين ، كما عكس ذلك من قال [من البسيط] :
٩٨١ ـ يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم |
|
... (٢) |
أصله ما بين قرن ، فحذف بينا وأقام قرنا مقامها ، قال : والفاء نائبة عن إلى ، وصحّت إضافة ما بين إلى الدخول لاشتماله على مواضع ، أو لأنّ التقدير بين مواضع الدخول. قال ابن هشام : وكون الفاء للغاية بمترلة إلى غريب ، وقد يستأنس له عندي بمجيء عكسه في نحو قوله [من الطويل] :
٩٨٢ ـ وأنت الّتي حبّبت شغبا إلى بدا |
|
إلىّ وأوطاني بلاد سواهما (٣) |
إذ المعنى شغبا فبدا ، وهما موضعان ، ويدلّ على إرادة الترتيب قوله بعده [من الطويل] :
٩٨٣ ـ حللت بهذا حلّة ثمّ حلّة |
|
بهذا فطاب الواديان كلاهما (٤) |
وقال : هذا معنى غريب ، لأنّي لم أر من ذكره.
«وقد تفيد» أي الفاء العاطفة «ترتيب لاحقها» وهو المعطوف «على سابقها» وهو المعطوف عليه أي تسبّبه عنه ، فتسمّي فاء السببيّة ، ويغلب ذلك في العاطفة جملة أو صفة ، فالأوّل نحو قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج / ٦٣] ، فإنّ إصباح الأرض مخضرّة مترتّب على إنزال الماء من السماء ، والثانى نحو قوله تعالى : (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ* فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [الواقعة / ٥٣ و ٥٢] ، فإنّ ملأ البطون مترتّب على الأكل ، وقيل : الفاء في الآية الأولى بمعنى ثمّ
__________________
(١) تقدم برقم ٥٤٥ و ٩٧٩.
(٢) تمامه «ولا حبال محبّ واصل تصل» ، ولم يسمّ قائله. اللغه : القرن : الخصلة من الشعر ، الحبال : جمع حبل ، والمراد العلاقة.
(٣) هذا البيت ينسب لكثير عزّة ولجميل بثنية. اللغة : الشغب : اسم منهل بين مصر والشام ، بدا : موضع بين طريق مكة والشام.
(٤) اللغة : حللت : مخاطبة من الحلول بمعنى الترول ، الواديان : تثنية الوادي بمعنى كلّ منفرج بين الجبال والتلال والآكام.