التخلص من إحراج السائل ، ولم يضع الجاحظ مصطلح «الأسلوب الحكيم» وانما قال السكاكي وهو يتحدث عن التصريح والتلويح : «ولا كالاسلوب الحكيم وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب» (١) كما قال الشاعر :
أتت تشتكي عندي مزاولة القرى |
وقد رأت الضيفان ينحون منزلي |
|
فقلت كأني ما سمعت كلامها |
هم الضيف جدّي في قراهم وعجّلي |
أو السائل بغير ما يتطلب كما قال الله ـ تعالى ـ :(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ، قُلْ : هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ)(٢) ، قالوا : ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا حتى يمتلئ ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا.
وهذان هما قسما هذا الاسلوب ، أي : تلقي المخاطب بغير ما يترقب ، كالبيتين السابقين ، وتلقي السائل بغير ما يتطلب كالآية الكريمة السابقة. ولهذا الاسلوب أثر في الكلام وقد أوضحه السكاكي بقوله : «وإنّ هذا الاسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرّك من نشاط السامع ، سلبه حكم الوقور وأبرزه في معرض المسحور. وهل ألان شكيمة الحجاج لذلك الخارجي وسلّ سخيمته (٣) حتى آثر أن يحسن على أن يسيء غير أن سحره بهذا الاسلوب إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله : «لأحملنك على الأدهم» فقال متغابيا : «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» مبرزا وعيده في معرض الوعد ، متوصلا أن يريه بألطف وجه أنّ امرء مثله في مسند الامرة المطاعة خليق بأن يصفد لا أن يصفد ، وأن يعد لا أن يوعد» (٤).
وقد أوضح القزويني كلام السكاكي فقال : «ومن خلاف المقتضى ما سماه السكاكي الاسلوب الحكيم ، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنّه الأولى بالقصد ، أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤالة منزلة غيره تنبيها على أنه الاولى بحاله أو المهم له» (٥) ، وذكر أمثلته.
وسمّى عبد القاهر هذا الفنّ «المغالطة» (٦) ، وذكر السيوطي (٧) المصطلحين أي مصطلح عبد القاهر ومصطلح السّكّاكي. وذكر الحموي أنّ هذا الأسلوب هو «القول بالموجب» (٨) وليس الأمر كذلك وإن ذكر أحد شواهده وهو قصة القبعثرى مع الحجاج ؛ لأنّ القول بالموجب فن آخر. وذهب الى ذلك كثير من البلاغيين كالمدني الذي قال عن القول الموجب : «هو والاسلوب الحكيم رضيعا لبان وفرسا رهان حتى زعم بعضهم أنّ أحدهما عين الآخر وليس كذلك» (٩) ثم قال : «هذا النوع ـ أعني القول بالموجب ـ يشترك هو والاسلوب الحكيم في كون كل منهما من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر ، ويفترقان باعتبار الغاية. فان القول بالموجب غايته ردّ كلام المتكلم وعكس معناه ، والاسلوب الحكيم هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنّه الأولى بحاله أو المهم له» (١٠) ، وذكر أمثلة الأسلوب الحكيم ليفرق بينه وبين القول بالموجب.
__________________
(١) مفتاح العلوم ص ١٥٥.
(٢) البقرة ١٨٩.
(٣) السخيمة ؛ الضغينة ، يقال ؛ سللت سخيمته باللطف والترضي أي أخرجت ضغينته من صدره.
(٤) مفتاح العلوم ص ١٥٦.
(٥) الايضاح ص ٧٥ ، التلخيص ص ٩٧ ، شروح التلخيص ج ١ ص ٤٧٩ ، المطول ص ١٣٥ الأطول ج ١ ص ١٥٨.
(٦) الايضاح ص ٧٦ ، عروس الافراح ج ١ ص ٤٧٩.
(٧) شرح عقود الجمان ص ٢٩.
(٨) خزانة الأدب ص ١١٦.
(٩) أنوار الربيع ج ٢ ص ١٩٨.
(١٠) أنوار الربيع ج ٢ ص ٢٠٩.