يحتاج إلى إيضاح لأنّ الأمثلة التي ذكرها لا تحدد ذلك تحديدا دقيقا. ومن باب الأقسام قول النابغة :
نبئت أنّ أبا قابوس أوعدني |
ولا قرار على زأر من الأسد |
|
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه |
إذن فلا رفعت سوطي اليّ يدي |
وقول أبي فراس :
لا ضربت لي بالعراق خيمة |
ولا أنثنت أناملي على قلم |
|
إن لم أثرها من ديار فارس |
شعث النواصي فوقها سود اللمم |
|
حتى ترى لي بالعراق وقعة |
يشرب فيها الماء ممزوجا بدم |
وقول علي بن مقلد أبي شجاع سديد الملك :
فان لم تكن عندي كسمعي وناظري |
فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني |
|
فانّك أحلى في جفوني من الكرى |
وأطيب طعما في فؤادي من الأمن |
الاكتفاء :
كفى يكفي كفاية إذا قام بالأمر ، وكفى الرجل واكتفى : اضطلع ، وكفاك الشيء يكفيك واكتفيت به. وكفاه الأمر : اذا قام فيه مقامه (١).
تحدث ابن رشيق في باب الايجاز وقال : إن الايجاز عند الرماني على ضربين مطابق لفظه لمعناه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه مثل : «سل أهل القرية».
ومنه ما فيه حذف للاستغناء عنه في ذلك الموضع كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢) وقال : إنّ الضرب الأول مما ذكره الرماني يسمى المساواة ، والضرب والثاني مما ذكره يسمونه «الاكتفاء» وهو «داخل في باب المجاز وفي الشعر القديم والمحدث منه كثير يحذفون بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب» (٣). وقد سمّى الرماني هذا النوع الايجاز بالحذف ، (٤) وهو المصطلح الذي شاع في كتب البلاغة حينما قسموا الايجاز الى : إيجاز حذف وايجاز قصر. وعقد الحموي بابا للاكتفاء وقال : هو أن يأتي الشاعر ببيت من الشعر وقافيته متعلقة بمحذوف فلم يفتقر الى ذكر المحذوف لدلالة باقي لفظ البيت عليه ويكتفى بما هو معلوم في الذهن فيما يقتضي تمام المعنى. وهو نوع ظريف ينقسم الى قسمين : قسم يكون بجميع الكلمة وقسم يكون ببعضها. والاكتفاء بالبعض أصعب مسلكا لكنه أحلى موقعا ولم أره في كتب البديع ولا في شعر المتقدمين. فشاهد الاكتفاء بجميع الكلمة كقول ابن مطروح :
لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي |
ما دمت في قيد الحياة ولا إذا |
فمن المعلوم أنّ باقي الكلام : «ولا إذا مت» لما تقدم من قوله «الحياة» ومتى ذكر تمامه في البيت الثاني كان عيبا من عيوب الشعر مع ما يفوته من حلاوة الاكتفاء ولطفه وحسن موقعه في الأذهان» (٥).
والاكتفاء ببعض الكلمة عزيز الوقوع جدا ولم يوجد في كتب البديع ومن ذلك قول ابن سناء الملك :
أهوى الغزالة والغزال وإنّما |
نهنهت نفسي عفّة وتدينا |
|
ولقد كففت عنان عيني جاهدا |
حتى إذا أعييت أطلقت العنا |
أي : العنان (٦).
__________________
(١) اللسان (كفي).
(٢) يوسف ٨٢.
(٣) العمدة ج ١ ص ٢٥١.
(٤) النكت في إعجاز القرآن ص ٧٠.
(٥) خزانة الأدب ص ١٢٦.
(٦) خزانة ص ١٢٩ ، نفحات ص ٨١.