الدمع وسيلانه قليلا كان أو كثيرا. وانسجم الماء والدمع فهو منسجم إذا انسجم أي انصب ، والانسجام هو الانصباب (١).
قال ابن منقذ : «الانسجام أن يأتي كلام المتكلم شعرا من غير أن يقصد اليه وهو يدل على فور الطبع والغريزة» (٢).
وقال المصري : «هو أن يأتي الكلام متحدرا كتحدر الماء المنسجم سهولة سبك وعذوبة ألفاظ حتى يكون للجملة من المنثور والبيت من الموزون وقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس لغيره مع خلوه من البديع وبعده عن التصنيع. وأكثر ما يقع الانسجام غير مقصود كمثل الكلام المتزن الذي تأتي به الفصاحة في ضمن النثر عفوا كمثل أشطار وأنصاف وأبيات وقعت في أثناء الكتاب العزيز» (٣)
والانسجام على ضربين : ضرب يأتي مع البديع الذي لم يقصد كقوله تعالى : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٤).
فقد وقع فيه تعطف في قوله : (إِلَى اللهِ) و (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) الى جانب ما فيه من سلامة وانسجام.
وضرب لا بديع فيه كقوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(٥). وأكثر آي القرآن الكريم من شواهد هذا الباب (٦). ويختلف كلام المصري عن كلام سابقه ، فالأول يريد به مجيء الجملة الموزونة أو الشطر أو البيت في الكلام ، وهو ما ذكره المصري في آخر تعريفه ، أما أول كلامه فيريد به الانسجام بمعناه العام وهو أن يتحدر الكلام تحدر الماء المنسجم سهولة سبك وعذوبة لفظ. والى ذلك ذهب ابن قيم الجوزية والحموي والسيوطي والمدني (٧).
ومن الانسجام الذي وقع في الاشعار المقصودة قول أبي تمام :
إن شئت ألا ترى صبرا لمصطبر |
فانظر على أيّ حال أصبح الطّلل |
وقوله :
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى |
ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل |
وقول البحتري :
فيا لائمي في عبرة قد سفحتها |
لبين وأخرى قبلها لتجنّب |
|
تحاول مني شيمة غير شيمتي |
وتطلب مني مذهبا غير مذهبي |
وقد يحصل الانسجام مع البديع الذي أتت به القريحة عفوا من غير استدعاء ولا كلفة كبيت أبي تمام الأول : «إن شئت ...» قال المصري : «فأنت ترى انسجام هذا الكلام مع كون البيت قد وقع فيه المبالغة والتعليق والإشارة فانّه علق عدم صبر المصطبرين برؤية الطلل على تلك الحالة ، وأشار بقوله : «على أي حال أصبح الطلل» الى أحوال كثيرة لو عبّر عنها بلفظها لاحتاجت الى ألفاظ كثيرة. وعلق أحد الأمرين بالآخر إذ جاء بلفظ الشرط والمشروط» (٨).
ومن الانسجام قول ابن القيسراني :
بالسّفح من نعمان لي |
قمر منازله القلوب |
|
حملت تحيته الشّما |
ل فردّها عني الجنوب |
__________________
(١) اللسان (سجم).
(٢) البديع في نقد الشعر ص ١٣١.
(٣) تحرير التحبير ص ٤٢٩.
(٤) يوسف ٨٦.
(٥) الأعراف ١٩٩.
(٦) بديع القرآن ص ١٦٦.
(٧) الفوائد ص ٢١٩ ، خزانة الأدب ص ١٨٩ ، معترك ج ١ ص ٣٨٦ ، الاتقان ج ٢ ص ٨٧ ، شرح عقود الجمان ص ١٥٣ ، أنوار الربيع ج ٤ ص ٥ ، نفحات ص ٢٩٥ ، شرح الكافية ص ٢٦٤.
(٨) تحرير التحبير ص ٤٣١.