موضع ، ولا بمختار في كل كتاب ، بل لكل مقام مقال ، والى ذلك أشار ابن قتيبة بقوله : «لو كان الايجاز محمودا في كل الأحوال لجرّده الله تعالى في القرآن ، ولم يفعل الله ذلك ، ولكنه أطال تارة للتوكيد وحذف تارة للايجاز وكرر تارة للافهام» (١).
وقال ابن جني إنّ الإطالة والإيجاز هما في كل كلام مستقل بنفسه ولو بلغ الايجاز غايته لم يكن له بدّ من أن يعطيك تمامه وفائدته مع أنّه لا بدّ فيه من تركيب الجملة فان نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان ولا استعذاب ، وقال إنّ العرب الى «الايجاز أميل وعن الاكثار أبعد» وضرب مثلا بالقرآن الكريم وما فيه من الحذف الذي يجعل الكلام موجزا (٢). ومعنى ذلك أنّ الايجاز ضروري كغيره إذا أراد المتكلم أن يكون مطابقا لمقتضى الحال ولذلك قال العسكري : «إنّ الايجاز والاطناب يحتاج اليهما في جميع الكلام وكل نوع منه ولكل واحد منهما موضع ، فالحاجة الى الايجاز في موضعه كالحاجة الى الاطناب في مكانه ، فمن أزال التدبير في ذلك عن وجهته واستعمل الاطناب في موضع الايجاز واستعمل الايجاز في موضع الاطناب أخطأ» (٣).
وتحدث ابن رشيق عنه وذكر تعريف الرماني وهو : «الايجاز هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف» (٤). وسماه ابن سنان «الاشارة» وقال عنه : «هو أن يكون المعنى زائدا على اللفظ ، أي أنّه لفظ موجز يدل على معنى طويل على وجه الاشارة واللمحة» (٥). والمختار عنده في الفصاحة والدال على البلاغة هو أن يكون المعنى مساويا للفظ أو زائدا عليه ، أي أن يكون اللفظ القليل يدل على المعنى الكثير دلالة واضحة ظاهرة لا أن تكون الالفاظ لفرط ايجازها قد ألبست المعنى وأغمضته حتى يحتاج في استنباطه الى طرف من التأمل ودقيق الفكر.
وعرّفه الكلاعي تعريفا بديعا فقال إنه «ما ثوب لفظه كثوب المؤمن» (٦) ، وقال الرازي : «إنّه العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف من غير إخلال» (٧). وقال السكاكي إنّ الايجاز والاطناب من الامور النسبية كالأبوة والبنوة ، وهي التي يتوقف تعقلها على تعقل غيرها ، فانّ الكلام الموجز إنما يدرك من حيث وصفه بالايجاز بالقياس الى كلام آخر اكثر منه وكذلك المطنب انما يدرك من حيث وصفه بالاطناب الى كلام آخر يكون أقل منه ، أي أنّه جعل متعارف الأوساط مقياسا له ، وقال : «فالايجاز هو أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط ، والاطناب هو أداؤه بأكثر من عباراتهم سواء كانت القلة والكثرة راجعة الى الجمل أو الى
__________________
(١) أدب الكاتب ص ١٥.
(٢) الخصائص ج ١ ص ٣٠ ، ٨٣ ، ٨٦.
(٣) كتاب الصناعتين ص ١٩٠.
(٤) العمدة ج ١ ص ٢٥٠ ، النكت في إعجاز القرآن ص ٧٠.
(٥) سر الفصاحة ص ٢٤٣.
(٦) إحكام صنعة الكلام ص ٨٩.
(٧) نهاية الايجاز ص ١٤٥.