القليلة على الذي كتبته لك في باب الايجاز وترك الفضول ، فمنها قوله حين وصف خمر أهل الجنة :(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ)(١) ، وهاتان الكلمتان قد جمعتا جميع عيوب خمر أهل الدنيا.
وقوله ـ عزوجل ـ حين ذكر فاكهة أهل الجنة فقال : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ)(٢) جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني» (٣) وقال فيما بقي من رسالته في البلاغة والايجاز : «درجت الارض من العرب والعجم على إيثار الايجاز وحمد الاختصار وذم الاكثار والتطويل والتكرار وكل ما فضل عن المقدار» (٤).
ورأى ابن الأثير أنّ التنبه لهذا النوع من الايجاز عسر ، لأنّه يحتاج الى فضل تأمل (٥) ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(٦). وتظهر روعة هذه الآية الكريمة حينما تقارن بقول العرب : «القتل أنفى للقتل» ، ويتضح ذلك في وجوه :
الأول : أنّ عدة حروف (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) عشرة في التلفظ ، وعدد حروفه أربعة عشر.
الثاني : ما فيه من التصريح بالمطلوب الذي هو الحياة بالنص عليها فيكون أزجر عن القتل بغير حق لكونه أدعى الى الاقتصاص.
الثالث : ما يفيده تنكير «حياة» من التعظيم أو النوعية.
الرابع : اطراده بخلاف قولهم ، فانّ القتل الذي ينفي القتل هو ما كان على وجه القصاص لا غيره.
الخامس : سلامته من التكرار الذي هو من عيوب الكلام بخلاف قولهم.
السادس : استغناؤه عن تقدير محذوف بخلاف قولهم فان تقديره : القتل أنفى من تركه.
السابع : أنّ القصاص ضد الحياة فالجمع بينهما طباق.
الثامن : جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بادخل «في» عليه (٧). ومن الايجاز بالقصر قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ)(٨).
ومنه قول الشريف الرضي :
مالو الى شعب الرحال وأسندوا |
أيدي الطّعان الى قولب تخفق |
فانه لما أراد أن يصفهم بالشجاعة في أثناء وصفهم بالغرام عبّر عن ذلك بقوله : «أيدي الطعان» وهذا معنى الايجاز بالقصر عند البلاغيين غير أنّ ابن الأثير (٩) عدّه فرعا من الايجاز الذي لا يحذف منه شيء لأنّه قسّم الايجاز الى قسمين :
١ ـ الايجاز بالحذف ، وهو ما يحذف منه المفرد والجملة.
٢ ـ ما لا يحذف منه شيء وهو ضربان :
الأول : ما ساوى لفظه معناه ويسمى التقدير.
الثاني : ما زاد معناه على لفظه ويسمى الايجاز بالقصر.
وقسّم الايجاز بالقصر الى نوعين :
الأول : ما دلّ لفظه على محتملات متعددة ويمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها ، ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي
__________________
(١) الواقعة ١٩.
(٢) الواقعة ٣٣.
(٣) الحيوان ج ٣ ص ٨٦.
(٤) رسالة في البلاغة والايجاز ص ٢٣ وتنظر رسائل الجاحظ ج ٤ ص ١٥١.
(٥) المثل السائر ج ٢ ص ٧٨.
(٦) البقرة ١٧٩.
(٧) كتاب الصناعتين ص ١٧٥ ، نهاية الايجاز ص ١٤٥ ، المثل السائر ج ٢ ص ١٢٥ ، بديع القرآن ص ١٩٢ ، الايضاح ص ١٨٢.
(٨) المؤمنون ٩١.
(٩) المثل ج ٢ ص ١١٤ ، وينظر الطراز ج ٢ ص ١١٩.