بالنقص عند التنقل من معنى الى غيره والخروج من باب الى سواه ، حتى أنّ أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب الى المديح وأطبقوا على أنّه لا يحسنه ولا يأتي فيه بشيء وإنّما اتفق له في مواضع محدودة خروج يرتضي وتنقل يستحسن» (١). وقال الحاتمي : «من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممتزجا بما بعده من مدح أو ذم أو غيرهما ، غير منفصل منه. فانّ القصيدة مثلها مثل خلق الانسان في اتصال بعض أجزائه ببعض ، فمتى انفصل واحد عن الآخر أو باينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه وتعفّي معالم جماله.
ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين محترسين من مثل هذه الحال احتراسا يجنبهم شوائب النقصان ويقف على محجة الاحسان حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال. وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء كقول مسلم بن الوليد وهو من بارع التخلص :
أجدّك هل تدرين أن ربّ ليلة |
كأنّ دجاها من قرونك ينشر |
|
نصبت لها حتى تجلّت بغرّة |
كغرّة يحيى حين يذكر جعفر |
وقول بكر بن النطاح :
ودويّة خلقت للسراب |
فأمواجه بينها تزخر |
|
كأنّ حنيفة تحميهم |
فأليتهم خشن أزور |
وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم ولطف أفكارهم واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم ، فكأنه مذهب سهّلوا حزنه ونهجوا رسمه.
وأما الفحول الاوائل ومن تلاهم من المخضرمين والاسلاميين فمذهب المتعالم فيه : «عدّ عن كذا الى كذا» وقصارى كل رجل منهم وصفه ناقته بالعتق والكرم والنجابة والنجاء وأنّه امتطاها وادّرع عليها جلباب ليل وتجاوز بها جوف تنوفة الى الممدوح.
وهذا الطريق المهيع والمحجة اللهجم ، وربما اتفق لأحدهم معنى لطيف تخلص به الى غرضه ولم يتعمده إلا أنّ طبعه السليم ساقه اليه وصراطه المستقيم أضاء له مناره وأوقد له باليفاع ناره في الشعر» (٢).
ومنهم من يسمي هذا الفن خروجا وتوسلا (٣) قال ابن رشيق : «وأولى الشعر بأن يسمى تخلصا ما تخلص فيه الشاعر من معنى الى معنى ثم عاد الى الأول وأخذ في غيره ثم رجع الى ما كان فيه» (٤) كقول النابغة الذبياني آخر قصيدة اعتذر بها الى النعمان بن المنذر :
وكفكفت مني عبرة فرددتها |
الى النحر منها مستهلّ ودامع |
|
على حين عاتبت المشيب على الصّبا |
وقلت : ألما أصح والشيب وازع؟ |
ثم تخلص الى الاعتذار فقال :
ولكنّ هما دون ذلك شاغل |
مكان الشغاف تبتغيه الأصابع |
|
وعيد أبي قابوس من غير كنهه |
أتاني ودوني راكش فالضّواجع |
ثم وصف حاله عند ما سمع من ذلك فقال :
فبتّ كأني ساورتني ضئيلة |
من الرقش في أنيابها السمّ ناقع |
|
يسهّد في ليل التمام سليمها |
لحلي النساء في يديه قعاقع |
__________________
(١) إعجاز القرآن ص ٥٦.
(٢) حلية المحاضرة ج ١ ص ٢١٥.
(٣) العمدة ج ١ ص ٢٣٦.
(٤) العمدة ج ١ ص ٢٣٧.