تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ*)(١). فهذا تكرير من جهة اللفظ والمعنى ، ووجه ذلك أنّ الله ـ تعالى ـ إنما أوردها في خطاب الثقلين الجن والانس فكل نعمة يذكرها أو ما يؤول الى النعمة فإنه يردفها بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ*) تقريرا للآلاء وإعظاما لحالها.
ومن طلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)(٢). وإنما كرره لما يحصل فيه من إيقاظ النفوس بذكر قصص الأولين والاتعاظ بما أصابهم من المثلات (٣) وحل بهم من أنواع العقوبات فيكون بمنزلة قرع العصا لئلا تستولي عليهم الغفلة ويغلب عليهم الذهول والنسيان.
ومن ذلك قول المتنبي :
العارض الهتن بن العارض الهتن ب |
ن العارض الهتن بن العارض الهتن |
قال العلوي : «فهذا من بابا التكرير ثم من الناس من صوّبه في تكريره هذا ومنهم من قال انه قد أساء فيما أورده من ذلك. والأقرب أنّه مجيد في مطلق التكرير ، كما حكيناه فيما أوردناه من آي التنزيل ، فانّ ما أورده من هذا التكرير دالّ على إغراق الممدوح في الكرم لكن إنّما عرض فيه ما عرض لمن أنكره وزعم أنّه غير محمود فيما جاء به من جهة أنّ لفظة «العارض» ولفظة «الهتن» ليستا واردتين على جهة البلاغة فيهما لقلة الاستعمال لهما ، فمن أجل هذا كان ما قاله ليس بالغا في البلاغة مبلغا عظيما لا من جهة التكرير ، فانّه محمود لا محالة» (٤).
ومن ذلك ما قاله «أبو نواس» :
قمنا بها يوما ويوما وثالثا |
ويوما ويوم للترحل خامس (٥) |
والمراد من هذا أنّه أقام بها أربعة أيام ، وهذا تكرير ليس وراءه كبير فائدة.
٢ ـ ما يكون في المعنى دون اللفظ وهذا القسم يستعمل كثيرا في القرآن الكريم وغيره وهو ضربان :
الأول : المفيد ، كقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ)(٦) فقوله : (وَالْجِبالِ) وارد على جهة التأكيد المعنوي وفائدته تعظيم شأن هذه الأمانة المشار اليها وتفخيم حالها.
ومن ذلك قول المقنع الكندي :
وإنّ الذي بيني وبين بني أبي |
وبين بني عمي لمختلف جدّا |
|
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم |
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا |
|
وإن ضيّعوا غيبي حفظت غيوبهم |
وإن هم هووا عني هويت لهم رشدا |
قال العلوي : «فانظر الى هذه الأبيات ما أجمعها لفنون الانصاف وأبلغها في مراعاة جانب الحق والاعتراف ، فهذه الالفاظ وإن كانت متغايرة لكنها متطابقة في المقصود دالة عليه» (٧).
الثاني : غير المفيد ، وهو أن ترد لفظتان مختلفتان تدلان على معنى واحد كقول أبي تمام :
قسم الزمان ربوعنا بين الصّبا |
وقبولها ودبورها أثلاثا |
فالصّبا والقبول لفظتان تدلان على معنى واحد وهما اسمان للريح التي تهب من ناحية المشرق.
__________________
(١) تكررت في سورة الرحمن عدة مرات.
(٢) القمر ١٧ ـ ١٨. ثم قال : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (الآيتان ٢١ ـ ٢٢) ثم قال : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (الآية ٣٠).
(٣) العقوبات والتنكيل.
(٤) الطراز ج ٢ ص ١٨٢.
(٥) ويروى :
أقمنا به يوما ويوما وثالثا |
ويوما له يوم الترحل خامس |
(٦) الأحزاب ٧٢.
(٧) الطراز ج ٢ ص ١٨٦.