على علوّ الدرجة. وهذا ما سماه السكاكي والقزويني وشراح تلخيصه «الاستتباع» (١).
وقال ابن مالك عن تأكيد المدح بما يشبه الذم : «أن تنفي عن الممدوح وصفا معيبا ثم تعقبه بالاستثناء فتوهم أنّه ستثبت له ما يذم به فتأتي بما من شأنه أن يذم به وفيه المبالغة بالمدح» (٢).
وقال ابن الأثير الحلبي : «حقيقة هذا النوع أن يكون الانسان آخذا في مدح فيستثني في بعضه فيعتقد السامع أنّ ما بعد الاستثناء يكون نوع ذم أو عيب في الممدوح استثنى منه المادح في مدحه ، فاذا تكملة الاستثناء توجب تأكيدا للمدح الأول قطعا له» (٣).
وقسّمه الآخرون كالحلبي والنويري والقزويني وشراح التلخيص (٤) الى ثلاثة أضرب :
الأول : أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها ، وهو أفضلها عند البلاغيين. ومنه قول النابغة الذبياني :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم |
بهنّ فلول من قراع الكتائب |
أي : إن كان فلول السيف من قراع الكتائب من قبيل العيب فأثبت شيئا من العيب على تقدير أنّ فلول السيف منه وذلك محال ، فهو في المعنى تعليق بالمحال. والتأكيد فيه من وجهين :
أحدهما : أنّه كدعوى الشيء ببينة.
وثانيهما : أنّ الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا فاذا نطق المتكلم بـ «إلا» أو نحوها توهّم السامع قبل أن ينطق بما بعدها أنّ ما يأتي بعدها مخرج مما قبلها فيكون شيء من صفة الذم ثابتا وهذا ذم. فاذا أتت بعدها صفة مدح تأكد المدح لكونه مدحا على مدح وإن كان فيه نوع من الخلابة.
الثاني : أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى كقول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «أنا أفصح العرب بيد أنّي من قريش».
ومنه قول الجعدي :
فتى كملت أخلاقه غير أنّه |
جواد فما يبقي من المال باقيا |
الثالث : أن يأتي الاستثناء فيه مفرغا كقوله تعالى :(وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا)(٥).
أي : وما تعيب منّا إلّا أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الايمان بآيات الله. ونحوه قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا)(٦) فانّ الاستفهام فيه للانكار.
ويجري الاستدراك مجرى الاستثناء كما في قول بديع الزمان الهمذاني :
هو البدر إلا أنّه البحر زاخر |
سوى أنّه الضرغام لكنّه الوبل |
وهذا الأسلوب كثير في كلام العرب غير أنّه في غاية العزة في القرآن الكريم ، ومنه الآيتان السابقتان.
قال المصري : «ولم أجد منه إلا آية واحدة تحيّلت على تأويل تدخل به في هذا الباب ، وهي قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)(٧) فانّ
__________________
(١) مفتاح العلوم ص ٢٠٢ ، الايضاح ص ٣٧٤ ، التلخيص ص ٣٨٣ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٩٦ ، المطول ص ٤٤٢ ، الاطول ج ٢ ص ٢١٧.
(٢) المصباح ص ١٠٩ ، وينظر المنصف ص ٧١.
(٣) جوهر الكنز ص ٢٠٦.
(٤) حسن التوسل ص ٢٢٩ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٢١ ، الايضاح ص ٣٧٢ ، التخليص ص ٣٨٠ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٨٦ ، المطول ص ٤٣٩ ، الاطول ج ٢ ص ٢١٣ ، شرح عقود الجمان ص ١٢٥ ، حلية اللب ١٤٥ ، نفحات الأزهار ص ٦١ ، ٦٨.
(٥) الأعراف ١٢٦.
(٦) المائدة ٥٩.
(٧) المائدة ٥٩.