المقصود بما يدفعه» (١).
فالاحتراس عند هؤلاء هو التكميل ، ولكنّ ابن مالك أفرد التكميل بفن آخر وعرّفه بقوله : «التكميل أن تأتي في شيء من الفنون بكلام فتراه ناقصا لكونه مدخولا بعيب من جهة دلالة مفهومه فتكمله بجملة ترفع عنه النقص. مثل أن تجيد مدح رب السيف بالكرم دون الشجاعة أو رب القلم بالبلاغة دون سداد الرأي ونفاذ العزم فتراه ناقصا فتذكر معه كلاما يكمل المدح ويرفع ايهام الذم» (٢). وفرّق المصري بين الاحتراس والتكميل والتتميم فقال : «إن المعنى قبل التكميل صحيح تام ثم يأتي التكميل بزيادة يكمل بها حسنه إما بفن زائد أو بمعنى. والتتميم يأتي ليتمم نقص المعنى ونقص الوزن معا ، والاحتراس لاحتمال دخل على المعنى وإن كان تاما كاملا ووزن الكلام صحيحا.
وقد جعل ابن رشيق الاحتراس نوعا من التتميم وسوّى بينهما ، وقد ظهر الفرق بينهما فجعلهما في باب واحد غير سائغ» (٣). وفرّق بينه وبين المواربة فقال : «والفرق بينه وبين المواربة ـ بالراء المهملة ـ أيضا ، أنّ الاحتراس يؤتى به وقت العمل عند ما يتفطن المتكلم لموضع الدّخل ، والمواربة يؤتى بها وقت العمل وبعد صيرورة الكلام.
والمواربة ـ بالراء المهملة ـ تكون بالتصحيف والتحريف واهتدام الكلمة والزيادة والنقص ، والاحتراس بزيادة الجمل المفيدة المتضمنة معنى الانفصال عمّا يحتمله الكلام من الدخل ، والمواربة تكون في نفس الكلام وتكون منفصلة عنه. والاحتراس لا يكون إلا في نفس الكلام».
ثم فرّق بينه وبين المناقضة والانفصال فقال : «إنّ الاحتراس هو ما فطن له الشاعر أو الناثر وقت العمل فاحترس منه. والانفصال ما لم يفطن له حتى يدخل عليه ، فيأتي بجملة من الكلام أو بيت من الشعر ينفصل به عنه ذلك الدخل» (٤).
والأمثلة التي ذكرها معظم البلاغيين واحدة ، وقد اتفقوا على تسمية هذا الفن احتراسا ـ ما عدا بعضهم ـ وفرقوا بينه وبين التكميل والتتميم. ومن أمثلة هذا الفن في الكتاب العزيز قوله تعالى : (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٥) فانه ـ تعالى ـ لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان أعقبه بالدعاء على الهالكين ووصفهم بالظلم ليعلم أنّ جميعهم كان مستحقا للعذاب احتراسا من ضعيف يتوهم أنّ الهلاك ربما شمل من لا يستحق العذاب ، فلما دعا على الهالكين ووصفهم بالظلم علم استحقاقهم لما نزل بهم وحلّ بساحتهم وظهر من ذلك صدق وعده لنبيه نوح ـ عليهالسلام ـ وأعلمنا أنه قد أنجزه وعده الذي قال فيه : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(٦).
ومن ذلك قول الخنساء :
ولو لا كثرة الباكين حولي |
على إخوانهم لقتلت نفسي |
ثم تخيّلت أنّ قائلا قال لها : لقد ساويت أخاك بالهالكين من إخوان الناس فكيف أفرطت في الجزع عليه دونهم؟ فاحترست من ذلك بقولها :
وما يبكون مثل أخي ولكن |
أعزّي النفس عنه بالتأسي |
وقول الفرزدق :
__________________
(١) الايضاح ص ٢٠٢ ، التلخيص ص ٢٢٩ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٢٣١ ، المطول ص ٢٩٥ ، الاطول ج ٢ ص ٤٦ ، الاتقان ج ٢ ص ٧٤ ، شرح عقود الجمان ص ٧٥ ، نفحات ص ١٧٢ ، شرح الكافية ص ٣١٦.
(٢) المصباح ٩٨.
(٣) تحرير التحبير ص ٢٤٥ ، وينظر خزانة الأدب ص ٤٥٨.
(٤) تحرير التحبير ص ٢٤٥.
(٥) هود ٤٤.
(٦) هود ٣٧.