القول أن يتكلم بما يتناقض معناه (١). وقال الشريف الجرجاني : «التناقض : هو اختلاف القضيتين بالايجاب والسلب بحيث يقتضي لذاته صدق إحداهما وكذب الأخرى» (٢).
تحدّث قدامة عن التناقض وقال : «إنّ مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين بأن يصف شيئا وصفا حسنا ثم يذمه بعد ذلك ذمّا حسنا أيضا غير منكر عليه ولا معيب من فعله إذا أحسن المدح والذمّ بل ذلك عندي يدلّ على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها» (٣). وتحدّث في عيوب المعاني عن الاستحالة والتناقض وهما «أن يذكر في الشعر شيء فيجمع بينه وبين المقابل له من جهة واحدة. والأشياء تتقابل على أربع جهات : إمّا على طريق المضاف ومعنى المضاف هو الشيء الذي يقال بالقياس الى غيره مثل الضعف الى نصفه والمولى الى عبده والأب الى ابنه ... وإمّا على طريق التضادّ مثل الشّرّير للخير والحارّ للبارد والأبيض للأسود. وإمّا على طريق العدم والقنية (٤) مثل الأعمى والبصير والأصلع وذي اللحية. وإما على طريق النفي والاثبات مثل أن يقال : «زيد جالس» : «زيد ليس بجالس».
فاذا أتى في الشعر جمع بين متقابلين من هذه المتقابلات وكان الجمع من جهة واحدة فهو عيب فاحش غير مخصوص بالمعاني الشعرية بل هو لاحق بجميع المعاني» (٥).
فمما جاء في الشعر من التناقض على طريق المضاف قول عبد الرحمن بن عبد الله القس :
فاني إذا ما الموت حلّ بنفسها |
يزال بنفسي قبل ذاك فأقبر |
فقد جمع بين «قبل» و «بعد» وهما من المضاف لأنّه لا قبل إلا لبعد ولا بعد إلا لقبل ، حيث قال : «إنه اذا وقع الموت بها» وهذا القول كأنّه شرط وضعه ليكون له جواب يأتي به ، وجوابه هو قوله : «يزال بنفسي قبل ذاك» وهذا شبيه بقول قائل لو قال : «إذا انكسر الكوز انكسرت الجرة قبله».
ومما جاء على جهة التضاد قول أبي نواس يصف الخمرة :
كأنّ بقايا ما عفا من حبابها |
تفاريق شيب في سواد عذار |
فشبّه حباب الكأس بالشيب وذلك قول جائز ؛ لأنّ الحباب يشبه الشيب في البياض وحده لا في شيء آخره غيره ، ثم قال :
تردّت به ثم انفرى عن أديمها |
تفرّي ليل عن بياض نهار |
فالحباب الذي جعله في هذا البيت الثاني كالليل هو الذي كان في البيت الاول أبيض كالشيب ، والخمر التي كانت في البيت الاول كسواد العذار هي التي صارت في البيت الثاني كبياض النهار. وليس في هذا التناقض منصرف الى جهة من جهات العذر لأنّ الابيض والأسود طرفان متضادان.
ومما جاء من التناقض على طريقة القنية والعدم قول يحيى بن نوفل :
لأعلاج ثمانية وشيخ |
كبير السنّ ذي بصر ضرير |
فلفظة «ضرير» إنّما تستعمل في الاكثر للذي لا بصر له وقول هذا الشاعر في هذا الشيخ إنّه ذو بصر وإنّه ضرير تناقض من جهة القنية والعدم. وذلك أنّه كأنه يقول : «إنّ له بصرا ولا بصر له ، فهو بصير أعمى».
ومما جاء على طريق الايجاب والسلب قول عبد الرحمن بن عبد الله القس :
__________________
(١) اللسان (نقض).
(٢) التعريفات ص ٦٠.
(٣) نقد الشعر ص ١٨.
(٤) القنية : الشيء ، أو ما اكتسب.
(٥) نقد الشعر ص ٢٣٢ ، وينظر سر الفصاحة ص ٢٨١ ، قانون البلاغة ص ٤١٣ ، البديع في نقد الشعر ص ١٧٦ ، منهاج البلغاء ص ١٣٨.