بالتسمية لقربها من مطابقة المسمى لأنّها مصدر ورّيت تورية إذا سترته وأظهرت غيره ، كأن المتكلم يجعله وراءه بحيث لا يظهر (١) ، وذهب الى مثل ذلك المدني فقال : «التورية أقرب اسم سمي به هذا النوع لمطابقته المسمى ، لأنّه مصدر ورّيت الحديث ، إذا أخفيته وأظهرت غيره» (٢)
والتورية أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان حقيقيان أو حقيقة ومجاز ، أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة ، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية ، فيريد المتكلم المعنى البعيد ويورّي عنه بالمعنى القريب فيتوهم السامع مع أول وهلة أنّه يريد القريب وليس كذلك ، ولذلك سمّي هذا الفن إيهاما.
ولم يكن المتقدمون يعنون بهذا النوع كثيرا ولكنّ المتأخرين شغفوا به حبا وأكثروا منه وأصبح سمة في أشعارهم ، وقد أشار الحموي الى ذلك بقوله : «لأنّ هذا النوع ـ أعني التورية ـ ما تنبه لمحاسنه إلّا من تأخّر من حذّاق الشعراء وأعيان الكتاب ، ولعمري إنّهم بذلوا الطاقة في حسن سلوك الأدب الى أن دخلوا اليه من باب ، فإنّ التورية من أعلى فنون الأدب وأعلاها رتبة وسحرها ينفث في القلوب ويفتح لها أبواب عطف ومحبة ، وما أبرز شمسها من غيوم النقد إلا كل ضامر مهزول ، ولا أحرز قصبات سبقها من المتأخرين غير الفحول» (٣). وذكر أنّ المتنبي أول من كشف غطاءها وجلا ظلمة أشكالها بقوله :
برغم شيب فارق السّيف كفّه |
وكانا على العلّات يصطحبان |
|
كأنّ رقاب الناس قالت لسيفه |
رفيقك قيسيّ وأنت يماني |
فهو يقول : إنّ كفّ شبيب وسيفه متنافران لا يجتمعان ، لأنّ شبيبا كان قيسيا والسيف يقال له يماني ، فورّى به عن الرجل المنسوب الى اليمن ، ومعلوم ما بين القيسيين واليمانيين من التنافر.
ولكنّ المتقدمين أشاروا اليها وإن لم يعنوا بها كالجاحظ الذي أراد بها التغطية واستعمال الحيلة (٤). وتحدث عنها ابن رشيق في باب الاشارة وقال إنّ من أنواعها التورية (٥) كقول عليّة بنت المهدي في طلّ الخادم :
أيا سرحة البستان طال تشوّقي |
فهل لي الى ظل اليك سبيل |
|
متى يشتفي من ليس يرجى خروجه |
وليس لمن يهوى اليه دخول |
فورّت بـ «ظلّ» عن «طلّ». والتورية عند ابن رشيق مثل الكناية وذلك أنّ الشيء لا يذكر باسمه وإنما يكنّى عنه بشجرة أو شاة أو بيضة أو مهرة ، كقول المسيب بن علس :
دعا شجر الأرض داعيهم |
لينصره السدر والأثأب (٦) |
فكنّى بالشجر عن الناس.
ولعلّ تعريف ابن منقذ أقرب الى المعنى الاصطلاحيّ فقد قال : «هي أن تكون الكلمة بمعنيين فتريد أحدهما فتورّي عنه بالآخر» (٧).
وأقرب من ذلك تعريف المصري وهو : «أن تكون الكلمة تحتمل معنيين فيستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر ، ومراده ما أهمله لا ما استعمله» (٨).
__________________
(١) خزانة الادب ص ٢٣٩.
(٢) أنوار الربيع ج ٥ ص ٥.
(٣) خزانة ص ٢٣٩.
(٤) الحيوان ج ٥ ص ٢٧٧ ، ٢٨٠.
(٥) العمدة ج ١ ص ٣١١.
(٦) السدر : شجر النبق. الأثأب : شجر ينبت في بطون الأودية بالبادية ، وهو على ضرب التين ينبت ناعما كأنه على شاطئ نهر وهو بعيد من الماء.
(٧) البديع في نقد الشعر ص ٦٠.
(٨) تحرير التحبير ص ٢٦٨ ، بديع القرآن ص ١٠٢ ، وينظر المصباح ص ١١٩ ، جوهر الكنز ص ١١١ ، شرح الكافية ص ٣٥.