يقتضي اختصاص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ. وقد فرّق ابن قيم الجوزية بينهما من وجوه خمسة (١) :
الأول : أنّ الناسخ لا يكون إلا متأخرا عن المنسوخ.
الثاني : أنّ النسخ لا يكون إلّا بخطاب رفع بحكم الخطاب الأول ، والتخصيص قد يقع بقول وفعل وقياس.
الثالث : أنّ نسخ الشيء لا يكون إلّا بما هو مثله في القوة أو بما هو أقوى منه في الرتبة ، والتخصيص جائز بما هو دون المخصوص في الرتبة.
الرابع : أنّ التخصيص لا يقع في حكم واحد والنسخ جائز في مثله لا سيما على أصل من يبني نسخ الشيء قبل وقته.
الخامس : أنّ التخصيص ما أخرج من الخطاب ما لم يرد به ، والنسخ رافع ما أريد اثبات حكمه.
ثم قال : «والذي اعتمد عليه المحققون أنّ التخصيص إخراج بعض ما تناوله اللفظ العام أو ما يقوم مقامه بدليل منفصل في الزمان إن كان المخصص لفظيّا أو بالحس إن كان عقليا قبل تقرير حكمه».
ثم قال : «والتخصيص يسميه أرباب علم البيان الاختصاص عندهم ولا يحسن إلا أن يكون اختصاص الشيء بمعنى ظاهر ، مثل قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى)(٢) اختصاصها دون سائر النجوم لأنها عبدت ، وقيل : إنّ النجوم تقطع السماء طولا وهي تقطعها عرضا».
ومن كلام العرب قول الخنساء في أخيها صخر :
يذكرّني طلوع الشمس صخرا |
وأذكره لكل غروب شمس |
وانما خصّت هذين الوقتين لأنّ طلوع الشمس يذكرها بغارته على أعدائها ، وغروبها يذكرها باقرائه ضيفانه ، فاختصت لهذين الوقتين من بين سائر الاوقات لهذين المعنيين.
وعبارات التخصيص ثلاثة :
الأولى : إنما جاءني زيد.
الثانية : جاءني زيد لا عمرو.
الثالثة : ما جاءني إلا زيد.
فيفهم من الأولى تخصيص المجيء أو تخصيص مجيء معين ظنه المخاطب مخصوصا بغيره أو مشاركا غيره فيه فأفاد اثباته لزيد ونفيه عن غيره دفعة واحدة ومن الثانية في دفعتين ، والثالثة بأصل الوضع تفيد نفي التشريك ولهذا لا يصح «ما زيد إلا قائم لا قاعد» لأنك بقولك : «إلا قائم» نفيت عنه كل صفة تنافي القيام فيندرج فيه نفي القعود فيقع «لا قاعد» تكرارا. ويصح «إنما زيد قائم لا قاعد» فان صيغة «إنّما» موضوعة للتخصيص ويلزمه نفي الشركة فليس له من القوة ما يدلّ عليه بالوضع ، ولهذا يصح «زيد هو الجائي لا عمرو».
فدلالة الأوليين على التخصيص أقوى ، ودلالة الثالثة على نفي التشريك. وقد تذكر الثالثة في مثل ما أدعى واحد أنك قلت قولا ثم قلت بخلافه فتقول : «ما قلت إلا ما قلته قبل» وعليه قوله تعالى حكاية عن عيسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ)(٣). ليس المعنى : اني لم أزد على ما أمرتني به أن أقوله شيئا ، ولكن المعنى : اني لم أدع مما أمرتني به أن أقوله شيئا ولم يذكر ما يخالفه.
وحكم «غير» اذا وقع موقع «إلا» حكم «إلا» ، وأما «إنما» فالاختصاص فيها يقع مع المتأخر ، فاذا قلت : «إنما ضرب عمرا زيد» فالاختصاص في الضارب كما قال سبحانه وتعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ
__________________
(١) الفوائد ص ١٥٢.
(٢) النجم ٤٩.
(٣) المائدة ١١٧.