رأى أخا ثقة غضّ بصره ومجمج كلامه» وكان قد سمع أبياتا للعتبي فحلها بهذه العبارات ، وأبيات العتبي هي :
أفلت بطالته وراجعه |
حلم وأعقبه الهوى ندما |
|
ألقى عليه الدهر كلكله |
وأعاره الإقتار والعدما |
|
فاذا ألمّ به أخو ثقة |
غضّ الجفون ومجمج الكلما (١) |
وأما الضرب الثاني فمثاله ما ذكره بعض الكتاب من قول البحتري :
نطلب الاكثر في الدنيا وقد |
نبلغ الحاجة فيها بالأقلّ |
ثم قال : «فاذا نثرت ذلك ولم تزد في ألفاظه شيئا قلت : نطلب في الدنيا الاكثر وقد نبلغ منها الحاجة بالأقل».
وأما الضرب الثالث فهو أن توضع ألفاظ البيت في مواضع ولا يحسن وضعها في غيرها فيختل إذا نثر بتأخير لفظ وتقديم آخر فتحتاج في نثره الى النقصان منه والزيادة فيه ، كقول البحتري :
يسرّ بعمران الديار مضلّل |
وعمرانها مستأنف من خرابها |
|
ولم أرتض الدنيا أوان مجيئها |
فكيف ارتضائيها أوان ذهابها |
فاذا نثر على الوجه قيل : «يسر مضلل بعمران الدنيا ومن خرابها عمرانها مستأنف ، ولم أرتض أوان مجيئها الدنيا فكيف أوان ذهابها ارتضائيها». فهذا نثر فاسد ، فاذا غيرّت بعض ألفاظه حسن وهو أن تقول : «يسر المضلل بعمران الديار وانما تستأنف عمرانها من خرابها ، وما ارتضيت الدنيا أوان مجيئها فكيف أرتضيها أوان ذهابها؟».
والضرب الرابع أن يكسى ما يحلّ من المنظوم ألفاظا ، وهذا أرفع الدرجات.
وتحدّث ابن الأثير عن الحل في باب «الطريق إلى تعلّم الكتابة» وقال : «ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها وأظفرتني بكنوز جواهرها إذ لم يظفر غيري باحجارها فما وجدت أعون الأشياء عليها إلا حلّ آيات القرآن الكريم والأخبار النبوية وحل الأبيات الشعرية» (٢) ، ثم تكلم على حل الآيات والحديث والشعر.
وأفرد المصري «الحلّ» في باب وقال : «هو أن يعمد الكاتب إلى شعر ليحل منه عقد الوزن فيصيره منثورا» (٣). وقال الحلبي والنّويري : «وأمّا الحلّ فهو باب يتسع على المجيد مجاله وتتصرّف في كلام العارف به روّيته وارتجاله. وملاك أمر المتصدي له أن يكون كثير الحفظ للأحاديث النبوية والآثار والامثال والاشعار لينفق منها وقت الاحتياج اليها.
وكيفية الحلّ أن تتوخى هدم البيت المنظوم وحلّ فرائده من سلكه ثم يرتب تلك الفرائد وما شابهها ترتيب متمكن لم يحصره الوزن ويبرزها في أحسن سلك وأجمل قالب وأصح سبك ويكملها بما يناسبها من أنواع البديع إن أمكن ذلك من غير كلفة ويتخير لها القرائن ، وإذا تمّ معه المعنى المحلول في قرينة واحدة يغرم له من حاصل فكره أو من ذخيرة حفظه ما يناسبه ، وله أن ينقل المعنى إذا لم يفسده إلى ما شاء ، فان كان نسيبا وتأتّى له أن يجعله مديحا فليفعل ، وكذلك غيره من الأنواع. وإذا أراد الحلّ بالمعنى فلتكن ألفاظه مناسبة لألفاظ البيت المحلول غير قاصرة عنها فما قصرت عنها ولو بلفظة واحدة فسد ذلك الحل وعدّ معيبا ، واذا حلّ باللفظ فلا يتصرف بتقديم ولا تأخير ولا تبديل إلّا مع مراعاة نظام الفصاحة في ذلك واجتناب ما ينقص المعنى
__________________
(١) مجمج الكتاب : لم يبين حروفه.
(٢) المثل السائر ج ١ ص ٧٧.
(٣) تحرير التحبير ٤٣٩.