وتحدّث المصري عن الرمز والإيماء وقال إنّه من مبتدعاته مع أنّ ابن رشيق وغيره تكلّموا على الرمز.
قال : «فحواه أن يريد المتكلّم إخفاء أمر ما في كلامه مع إرادته إفهام المخاطب ما أخفاه فيرمز له في ضمنه رمزا يهتدي به الى طريق استخراج ما أخفاه من كلامه.
والفرق بينه وبين الوحي والإشارة أنّ المتكلّم في باب الوحي والإشارة لا يودع كلامه شيئا يستدل منه على ما أخفاه لا بطريق الرمز ولا غيره بل يوحي مراده وحيا خفيّا لا يكاد يعرفه إلّا أحذق الناس. فخفاء الوحي والإشارة أخفى من خفاء الرمز والإيماء. والفرق بينه وبين الإلغاز أنّ الإلغاز لا بد فيه ما يدل على المعمّى فيه بذكر بعض أوصافه المشتركة بينه وبين غيره وأسمائه فهو أظهر من باب الرمز» (١). ومثال الرمز قول النابغة الذبياني :
فاحكم كحكم فتاة الحيّ إذ نظرت |
الى حمام شراع وارد الثّمد |
|
يحفّه جانبا نيق ويتبعه |
مثل الزجاجة لم تكحل من الرّمد |
|
قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا |
الى حمامتنا أو نصفه فقد |
|
فكمّلت مائة فيها حمامتها |
وأسرعت حسبة في ذلك العدد (٢) |
فانه رمز عدّة الحمام التي رأتها الزرقاء ـ وعدته ستّ وستّون حمامة ـ فأخفى هذه العدّة ولم يدل عليها بصريح الدلالة ، ورمز الدلالة على عدتها بهذا الطريق. ومن أمثلة هذا الباب قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(٣) ، فإنّ صدر هذه الاية دلّ على أنّ الصلوات خمس ، لأنّه ـ عزوجل ـ أشار الى صلاتي النهار بقوله : (طَرَفَيِ النَّهارِ) ودلّ على صلوات الليل بقوله تعالى : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ.)
وعدّه السّجلماسي من التعمية وهي من جنس الإشارة وقال إنّه من الأقاويل اللغزية. (٤)
__________________
(١) بديع القرآن ص ٣٢١.
(٢) فتاة الحي : زرقاء اليمامة. شراع : مجتمعة.
الثمد : الماء القليل. النيق : الجبل. قد : حسب.
الحسبة : الحساب.
(٣) هود ١١٤.
(٤) المنزع البديع ص ٢٦٩.