وابن الخطيب الرازي وغيرهما» (١).
لقد تحدّث عبد القاهر عن المجاز العقلي في «دلائل الاعجاز» و «أسرار البلاغة» وخلاصة ما قاله أنّ في الكلام مجازا يكون التجوز في حكم يجري على الكلمة وتكون الكلمة متروكة على ظاهرها ويكون معناها مقصودا في نفسه ومرادا من غير تورية وتعريض كقولهم : «نهارك صائم» و «ليلك قائم» و «نام ليلي وتجلى همي» وقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)(٢) وقول الفرزدق :
سقاها خروق في المسامع لم تكن |
علاطا ولا مخبوطة في الملاغم (٣) |
قال عبد القاهر : «أنت ترى مجازا في هذا كله ولكن لا في ذوات الكلم وأنفس الالفاظ ولكن في أحكام أجريت عليها. أفلا ترى أنّك لم تتجوز في قولك : «نهارك صائم» «وليلك قائم» في نفس «صائم» و «قائم» ولكن في أن أجريتهما خبرين على النهار والليل ، وكذلك ليس المجاز في الآية في «ربحت» ولكن في إسنادها الى التجارة. وهكذا الحكم في «سقاها خروق» ليس التجوّز في «سقاها» ولكن في أن أسندها الى الخروق. أفلا ترى أنك لا ترى شيئا منها إلا وقد أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته فلم يرد بـ «صائم» غير الصوم ولا بـ «قائم» غير القيام ولا بـ «ربحت» غير الربح ولا بـ «سقت» غير السقي كما أريد في قوله : «وسالت باعناق المطي الاباطح» غير السيل» (٤).
وليس بواجب في المجاز الإسناديّ أو العقليّ أن يكون للفعل فاعل في التقدير اذا نحن نقلنا الفعل اليه عدنا به الى الحقيقة مثل أن نقول في : ربحت تجارتهم» : ربحوا في تجارتهم ، وفي «يحمي نساءنا ضرب» : نحمي نساءنا بضرب ، فان ذلك لا يتأتّى في كل شيء.
ونحن لا نستطيع أن نثبت للفعل «اقدمني» في «اقدمني بلدك حق لي على انسان» فاعلا سوى «الحق». وكذلك لا نستطيع في قول الشاعر :
وصيّرني هواك وبي |
لحيني يضرب المثل |
وقوله :
يزيدك وجهه حسنا |
إذا ما زدته نظرا |
أن نزعم أنّ لـ «صيّرني» فاعلا قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى كما في (رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) و «يحمي نساءنا ضرب» ، ولا نستطيع كذلك أن نقد لـ «يزيد» في «يزيدك وجهه» فاعلا غير الوجه.
وأخذ الزّمخشري آراء عبد القاهر وطبّقها في تفسيره الكشّاف (٥) ، وسار الرازي على خطاه وإن خالفه أحيانا (٦) ، وحينما وضع السّكّاكي علوم البلاغة وضعها الأخير قال عن المجاز العقلي : «هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلّم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بوساطة وضع» (٧) ثم رأى بعد ذلك نظمه في سلك الاستعارة بالكناية ، والى ذلك ذهب العلوي الذي قال إنّ أمثلة المجاز العقلي مجازات لغوية استعملت في غير مواضعها الأصلية ، وعدّ ما ذهب اليه الرازي من أنّها عقلية فاسدا (٨). ثم قال : «والمختار عندنا أنّ المجاز لا مدخل له في الأحكام العقلية ولا وجه لتسمية المجاز بكونه عقليّا ، لأنّ ما هذا حاله انما يتعلّق بالأوضاع اللغوية دون الأحكام العقلية» (٩).
__________________
(١) الطراز ج ٣ ص ٢٥٧.
(٢) البقرة ١٦.
(٣) علط الناقة : وسمها بالعلاط وهي صفحة العنق أو حبل يجعل في عنق البعير الملغم : الفم.
(٤) دلائل الاعجاز ص ٢٢٨.
(٥) الكشاف ج ١ ص ٥٣ ، وينظر المطول ص ٥٨.
(٦) نهاية الايجاز ص ٤٧ وما بعدها.
(٧) مفتاح العلوم ص ١٨٥.
(٨) الطراز ج ١ ص ٧٥ ـ ٧٦.
(٩) الطراز ج ١ ص ٢٥٠.