أوّل من أطلق «معاني الكلام» على مباحث الخبر والإنشاء التي أصبحت أهم أبواب علم المعاني.
وكان لنظرية النظم أثر كبير في ظهور هذا اللون من الدراسات ، وللنحاة العرب يد طولى في دراسة الكلام وتحليله والوقوف عند الجملة وما يطرأ عليها من تقديم وتأخير أو ذكر وحذف. ولعل سيبويه كان من أقدم الذين وقفوا عند هذه الجوانب ودرسها بعمق في فصول كتابه الشهير. ولكنّ سيبويه والنحاة لم يسمّوا هذه البحوث نظما وإنّما هي قواعد تسير عليها العرب في كلامها أو إنشائها. واذا أردنا أن نتلمس فكرة النظم فينبغي أن نتلمسها في كتب أخرى ، وأقدم إشارة عثرنا عليها عبارة ابن المقفّع التي أشار فيها الى صياغة الكلام ، قال : «فاذا خرج الناس من أن يكون لهم عمل وأن يقولوا قولا بديعا فليعلم الواصفون المخبرون أنّ أحدهم وإن أحسن وأبلغ ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتا وزبرجدا ومرجانا فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل ووضع كل فصّ موضعه وجمع الى كل لون شبهه مما يزيده بذلك حسنا فسمي بذلك صائغا رقيقا ، وكصاغة الذهب والفضة صنعوا فيها ما يعجب الناس من الحلي والآنية ، وكالنحل وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة وسلكت سبلا جعلها الله ذللا فصار ذلك شفاء وطعاما وشرابا منسوبا إليها مذكورا به أمرها وصنعتها. فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه أو يستحسن منه فلا يعجبن به إعجاب المخترع المبتدع ، فانه إنما اجتباه كما وصفنا» (١).
وأخذ البلاغيون معنى هذا الكلام وأداروه في كتاباتهم من غير أن يشيروا الى ابن المقفّع ، فقال الجاحظ : «فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير» (٢) وتحدّث عن النظم في كتبه وسمّى أحدها «نظم القرآن». وكان لمسألة إعجاز القرآن الكريم أثر في بلورة فكرة النظم ، فقد ذهب قوم من المتكلّمين إلى أنّ وجه الإعجاز هو ما اشتمل عليه كتاب الله العزيز من النّظم الغريب المخالف لنظم العرب ونثرهم في مطالعه ومقاطعه وفواصله. وممن تحدثوا عن النظم أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي وأبو سليمان حمد بن محمّد بن إبراهيم الخطابي وأبو الحسن علي بن عيسى الرّمّاني وأبو بكر محمّد ابن الطيب الباقلّاني والقاضي عبد الجبار الأسد آبادي. وكان لكلامهم أثر في هذه الدراسة التي بلغت نضجها على يدي عبد القاهر الذي أطال الكلام عليها وسمّى موضوعات علم المعاني : «معاني النحو» أو النظم ، وهو عنده تعليق الكلام بعضه ببعض وجعل بعضه بسبب من بعض (٣) ، أو هو «توخي معاني النحو». وتعدّ دراسته لموضوعات النظم في كتابه «دلائل الإعجاز» من أنضج الدراسات الأسلوبية. وحينما قسّم السّكّاكي البلاغة الى علومها المعروفة أطلق مصطلح «علم المعاني» على الموضوعات التي سمّاها عبد القاهر نظما ، وهو مصطلح ليس جديدا من حيث الاسم ولكنه جديد من حيث الدّلالة. وكان الزمخشري والرازي والمطرّزي قد ردّدوا هذا المصطلح (٤) ، ولكنهم لم يحدّدوه أو يضعوا له منهجا واضحا ، وبذلك كان السّكّاكي أوّل من استخدم هذا المصطلح للدلالة على بعض موضوعات البلاغة.
وأخذ البلاغيون بهذا المنهج وعرّف القزويني علم المعاني بأنّه «علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال» (٥) وحصر علم المعاني في ثمانية أبواب :
الأوّل : أحوال الإسناد الخبري.
__________________
(١) الادب الصغير ـ آثار ابن المقفع ص ٣١٩ ، رسائل البلغاء ص ٥ ـ ٦.
(٢) الحيوان ج ٣ ص ١٣٢.
(٣) دلائل الاعجاز ص (ص).
(٤) الكشاف ج ١ ص (ك) ، نهاية الايجاز ص ٣٦ ، الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ٢٥.
(٥) الايضاح ص ١٢ ، التلخيص ص ٣٧.