تعليق الشرط على نقيضين ممكن ومستحيل ، ومراد المتكلّم المستحيل دون الممكن ليؤثر التعليق عدم وقوع المشروط فكأنّ المتكلّم ناقض نفسه في الظاهر إذ شرط وقوع أمر بوقوع نقيضين» (١) كقول النابغة الذبياني :
وإنّك سوف تحلم أو تناهى |
إذا ما شبت أو شاب الغراب |
فان تعليقه وقوع حلم المخاطب على شيبه ممكن وعلى شيب الغراب مستحيل ، ومراده الثاني لا الأوّل ؛ لأنّ مقصوده أن يقول : إنّك لا تحلم أبدا.
والفرق بين هذا النوع ونفي الشيء بإيجابه أنّ المناقضة ليس فيها نفي ولا إيجاب ، ونفي الشيء بإيجابه ليس فيه شرط ولا معناه.
ومن المناقضة نوع آخر يرجع أصله الى الأوّل «وهو أن يأتي في لفظ الوعد ما يدلّ على الوعيد فيسرّ المخاطب ويسوؤه في وقت واحد فيتوجه على ذلك اللفظ إشكال يوضحه بعده» (٢). كقوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ)(٣) فقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) وعد ، ووصف كشف العذاب بالقلة وعيد ، فهو يسر ويسوء في حالة واحدة ، وإنما وصف بالقلة المنافية للكرم من أجل أنّه علّق كشف العذاب بشرط عدم العود الى موجب العذاب فاقتضت البلاغة أن يقول (قَلِيلاً) ليدمج في دلائل النبوة الإخبار بالغيب وهو وقوع العود فيرشح بذكر لفظة (قَلِيلاً) للإيضاح والإخبار بوقوع العود الذي اقتضى أن يكون كشف العذاب قليلا من أجله. والشرط المأخوذ من قوة الكلام هو الذي يردّ هذا النوع الى النوع الأول.
ومن المناقضة نوع آخر وهو مناقضة المتكلّم غيره في معنى ما كمناقضة أبي القاسم بن واسانة نصيبا أو عبد بني الحسحاس في قوله :
فما زال بردي طيبا من ثيابها |
الى الحول حتى أنهج البرد باليا |
فقال الواساني :
فصاك بي طيبه وصاك به |
مني صنان في حدّة البصل |
فأخذ معنى بيت المعزّى في صدر بيته وناقضه في بقيته لكنه قصر عنه.
ومن هذا النوع قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(٤). فشرط سبحانه المثلية في المجازاة أمرا بالعدل فناقض في ذلك الجاهلية فيما كانوا عليه من مدح الظلم كقول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا |
فنجهل فوق جهل الجاهلينا (٥) |
وقد تكلّم قدامة بن قبل على التناقض وقال : «ومما يجب تقديمه أيضا أنّ مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين بأن يصف شيئا وصفا حسنا ثم يذمه بعد ذلك ذمّا حسنا أيضا غير منكر عليه ولا معيب من فعله إذا أحسن المدح والذم بل ذلك عندي يدل على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها» (٦) كما عابوا تناقض امرئ القيس في قوله :
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة |
كفاني ـ ولم أطلب ـ قليل من المال |
|
ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل |
وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي |
وقوله في موضع آخر :
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا |
وحسبك من غنى شبع وريّ |
__________________
(١) تحرير التحبير ص ٦٠٧ ، بديع القرآن ص ٣٢٣.
(٢) تحرير التحبير ص ٦٠٨ ، بديع القرآن ص ٣٢٤.
(٣) الدخان ١٥.
(٤) البقرة ١٩٤.
(٥) بديع القرآن ص ٣٢٤ ـ ٣٢٦.
(٦) نقد الشعر ص ١٨.