كما لو قيل في انسان واحد إنه أعمى العين بصيرها ، فلا. وكذلك في التضاد أن يقال في الفاتر «حار» عند البارد و «بارد» عند الحار ، فأما عند أحدهما فلا. وفي النفي والاثبات أن يقال : «زيد جالس» في وقته الحاضر الذي هو جالس ، و «غير جالس» في الوقت الآتي الذي يقوم فيه إذا قام ، فذلك جائز ، فاما في وقت واحد وحال واحدة «جالس» و «غير جالس» فلا. ولهذه العلة يجوز ما يأتي في الشعر على هذه السبيل مثل ما قال خفاف بن ندبة :
إذا انتكث الحبل ألفيته |
صبور الجنان رزينا خفيفا (١) |
فلو لم تكن ارادته أنه رزين من حيث ليس خفيفا ، وخفيف من حيث ليس رزينا ، لم يجز» (٢).
وتحدث ابن سنان في باب المعاني عن الاستحالة التناقض وقال : «إنّ من الصحة تجنب الاستحالة والتناقض ، وذلك أن يجمع بين المتقابلين من جهة واحدة» (٣). وذكر بعض ما ذكره قدامة. وفرّق بين المستحيل والممتنع بقوله : «وقد فرق بين المستحيل والممتنع بأنّ المستحيل هو الذي لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم مثل كون الشيء أسود أبيض وطالعا نازلا ، فان هذا لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم ، والممتنع هو الذي يمكن تصوّره في الوهم وإن كان لا يمكن وجوده مثل أن يتصور تركيب بعض أعضاء الحيوان من نوع آخر منه كما يتصور يد أسد في جسم انسان ، فانّ هذا وإن كان لا يمكن وجوده فانّ تصوره في الوهم ممكن. وقد يصح أن يقع الممتنع في النظم والنثر على وجه المبالغة ، ولا يجوز أن يقع المستحيل البتة» (٤).
وقال البغدادي إنّ المستحيل «هو الشيء الذي لا يوجد ولا يمكن مع ذلك أن يتصوّر في الفكر مثل الصاعد النازل في حال واحدة ، فانّ هذه الحال لا يمكن أن تكون ولا تصوّر في الذهن» (٥). ثم قال عن الامتناع إنّه «هو الذي وان كان لا يوجد فيمكن أن يتخيل ، ومنزلته دون منزلة المستحيل في الشناعة مثل أن تركب أعضاء حيوان ما على جثة حيوان آخر فانّ ذلك جائز في التوهم ولكنه معدوم في الوجود».
وعرّف التناقض بمثل تعريفي قدامة وابن سنان ، وذكر جهات التقابل الأربع.
ومما جاء من الاستحالة والتناقض على جهة التضاد قول أبي نواس يصف الخمر :
كأنّ بقايا ما عفى من حبابها |
تفاريق شيب في سواد عذار (٦) |
فشبّه حباب الكأس بالشيب وذلك قول جائز لأنّ الحباب يشبه الشيب في البياض وحده لا في شيء آخر غيره ، ثم قال :
تردّت به ثم انفرى عن أديمها |
تفرّي ليل عن بياض نهار (٧) |
فالحباب الذي جعله في هذا البيت الثاني كالليل هو الذي كان في البيت الأول أبيض كالشيب ، والخمر التي كانت في البيت الأول كسواد العذار هي التي صارت في البيت الثاني كبياض النهار ، وليس في هذا التناقض منصرف الى جهة من جهات العذر ، لأنّ الأبيض والأسود طرفان متضادان ، ولا يجوز أن يوصف الشيء بالسواد والبياض في آن واحد.
ومما جاء من التناقض على طريق المضاف قول عبد الرحمن بن عبد الله القس :
__________________
(١) انتكث الحبل ؛ انتقض. الجنان ـ بفتح الجيم ـ القلب.
(٢) نقد الشعر ص ٢٣٢.
(٣) سر الفصاحة ص ٢٨١.
(٤) سر الفصاحة ص ٢٨٧.
(٥) قانون البلاغة ص ٤١٣ وقد تكلم عليه سيبويه في كتابه ج ١ ص ٢٥.
(٦) عفى ؛ أمحى. الحباب ؛ الفقاقيع التي تعلو الماء أو الخمر. العذار ؛ جانب اللحية.
(٧) تردت به ؛ اتخذته رداءا. أنفرى : انشق.