وذكر ابن منقذ نوعا آخر من الاستخدام ومثّل له بقول الشاعر :
اسم من ملّني ومن صدّ عني |
وجفاني لغير ذنب وجرم |
|
والذي ضنّ بالوصال علينا |
مثلما ضنّ بالهوى قلب نعم |
وهذا استخدام في الاعراب ، لأنّ «قلب» مرفوع بالابتداء وبفاعل «ضنّ» وهو أيضا استخدام في المعنى لأنّ معنى قلب من القلوب ومعنى العكس لأن الاسم معن.
وعرّفه ابن شيث القرشي بقوله : «هو أن تكون الكلمة تقتضي معنيين فتستخدم فيهما جميعا» (١) ومثاله : «أنا على عهدك الذي تعلمه لم أحلّ من أمرك عقدا ، ولا مكانا آنس منك فيه فقدا» ، فقد استعمل «أحل» للمعنيين ، ومثاله : «أنت في قلبي مالي عنك ولا لغيرك قلب» ، فـ «قلب» مستخدمة لقوله : «لي» ولقوله : «عنك».
وقال المصري : «هو أن يأتي المتكلم بلفظة لها معنيان ثم يأتي بلفظتين تتوسط تلك اللفظة بينهما ، ويستخدم كل لفظة منهما لمعنى من معنيي تلك اللفظة المتقدمة» (٢). وربما التبس هذا الفن بالتورية ولذلك قال : «والفرق بينهما أنّ التورية استعمال أحد المعنيين من اللفظة وإهمال الآخر ، والاستخدام استعمالهما معا».
ونقل الحلبي والنويري تعريف المصري (٣) ، واختلف تعريف الاستخدام بعد ذلك وانقسم البلاغيون الى مؤيد لابن مالك ومنتصر للقزويني ، فابن مالك يقول : «إنّ الاستخدام اطلاق لفظ مشترك بين معنيين ثم يأتي بلفظين يفهم من أحدهما أحد المعنيين ، ومن الآخر المعنى الآخر ، ثم انّ اللفظين قد يكونان متأخرين عن اللفظ المشترك وقد يكونان متقدمين ، وقد يكون اللفظ المشترك متوسطا بينهما» (٤). ومثال هذه الطريقة قوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ، يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(٥) ، فان لفظة (كِتابٌ) يحتمل أن يراد بها الأجل المحتوم والكتاب المكتوب ، وقد توسطت بين لفظتي (أَجَلٍ) و (يَمْحُوا) فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد بقرينة ذكر الأجل ، واستخدمت المفهوم الآخر وهو الكتاب المكتوب بقرينة (يَمْحُوا).
وهذا ما ذكره المصري من قبل حينما ذكر هذه الآية شاهدا للاستخدام.
والقزويني يقول : «هو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ثم بضميره معناه الآخر ، أو يراد بأحد ضميريه أحدهما وبالآخر الآخر» (٦). وسار على هذا المذهب معظم البلاغيين واصحاب البديعيات (٧).
ورجع ابن قيم الجوزية الى تعريف ابن منقذ وامثلته (٨) ، وذكر الحموي طريقتي ابن مالك والقزويني ثم قال : «وعلى كل تقدير فالطريقتان راجعتان الى مقصود واحد ، وهو استعمال المعنيين بضمير وغير ضمير» (٩). وذكر الآية التي استشهد بها ابن مالك ثم قال : «ومنه قوله من القصيدة النباتية :
حويت ريقا نباتيا حلا فغدا |
ينظّم الدرّ عقدا من ثناياك |
__________________
(١) معالم الكتابة ص ٨٢.
(٢) تحرير ص ٢٧٥ ، بديع القرآن ص ١٠٤ ، وينظر البرهان ج ٣ ص ٤٤٦.
(٣) حسن التوسل ص ٢٦٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٤٣.
(٤) خزانة الأدب ص ٥٢ ، انوار ج ١ ص ٣٠٨. وقد سقط هذا التعريف والفن كله من المصباح المطبوع.
(٥) الرعد ٣٨ ـ ٣٩.
(٦) الايضاح ص ٣٥٤ ، التلخيص ص ٣٦٠.
(٧) عروس ج ٤ ص ٣٢٦ ، المطول ص ٤٢٦ ، المختصر ج ٤ ص ٣٢٦ ، الاطول ج ٢ ص ١٩٥ ، مواهب ج ٤ ص ٤٢٦ ، نفحات ص ٧٩.
(٨) الفوائد ص ٢١٦.
(٩) خزانة ص ٥٣.