الى ماض» (١). وسماه «شجاعة العربية» وهو عنده ثلاثة أقسام :
الاول : الرجوع من الغيبة الى الخطاب ومن الخطاب الى الغيبة ، وقد ردّ في هذا البحث ما ذهب اليه الزمخشري من أنّ في الانتقال تطرية لنشاط السامع وايقاظا للاصغاء اليه وقال : «والذي عندي في ذلك أنّ الانتقال من الخطاب الى الغيبة أو من الغيبة الى الخطاب لا يكون إلا لفائدة اقتضته وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب الى أسلوب غير أنّها لا تحدّ بحدّ ولا تضبط بضابط ولكن يشار الى مواضع منها ليقاس عليها غيرها» (٢). وكان الزمخشري قد أشار الى مثل ذلك بعبارة موجزة فقال : «وقد تختص مواقعه بفوائد» (٣) ، أي أنّه رأى أنّ الانتقال من أسلوب الى أسلوب ليس للتطرية والايقاظ والتنبيه وحدها.
ومن أمثلة الرجوع من الغيبة الى الخطاب قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٤) فقد رجع من الغيبة في أول الكلام الى الخطاب في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ.)
ومن الرجوع من خطاب الغيبة الى خطاب النفس قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(٥) ، فانه قال : (وَزَيَّنَّا) بعد قوله : (ثُمَّ اسْتَوى) وقوله : (فَقَضاهُنَ) و (وَأَوْحى.)
ومن الرجوع من خطاب النفس الى خطاب الجماعة قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٦).
ومن الرجوع من خطاب النفس الى خطاب الواحد قوله تعالى : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٧).
ومن ذلك قول أبي تمام :
وركب يساقون الركاب زجاجة |
من السّير لم تقصد لها كفّ قاطب |
|
فقد أكلوا منها الغوارب بالسّرى |
وصارت لها أشباحهم كالغوارب |
|
يصرّف مسراها جذيل مشارق |
إذا آبه همّ عذيق مغارب |
|
يرى بالكعاب الرود طلعة ثائر |
وبالعرمس الوجناء غرّة آيب |
|
كأنّ بها ضغنا على كلّ جانب |
من الارض أو شوقا الى كلّ جانب |
|
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد |
تقطّع ما بيني وبين النوائب |
|
هنالك تلقى الجود من حيث قطّعت |
تمائمه والمجد مرخي الذوائب (٨) |
قال ابن الأثير : ألا ترى أنه قال في الأول : «يصرّف مسراها» مخاطبة للغائب ثم قال بعد ذلك : «إذا العيس لاقت بي» مخاطبا نفسه. وفي هذا من الفائدة إنّه لما
__________________
(١) المثل السائر ج ٢ ص ٤ ، الجامع الكبير ص ٩٨.
(٢) المثل السائر ج ٢ ص ٥ ، كفاية ص ١٩٠.
(٣) الكشاف ج ١ ص ١٢.
(٤) الفاتحة ٢ ـ ٥.
(٥) فصلت ١١ ـ ١٢.
(٦) يس ٢٢.
(٧) الدخان ١ ـ ٦.
(٨) الركب ؛ الجماعة الراكبون. القاطب ؛ الذي يمزج الخمر بالماء. الغوارب ؛ جمع غارب وهو الكاهل. السرى ؛ سير الليل. يصرف مسراها ؛ يسيرها. الجذيل ؛ تصغير جذل وهو عود ينصب لتحتك به الجمال الجربى. العذيق ؛ تصغير عذق.
الكعاب ؛ البارزة النهدين. الرود ؛ الفتاة الناعمة.
العرمس ؛ الناقة الشديدة. الوجناء ؛ القوية.