الثاني : الاكتفاء بالسبب عن المسبب ، وبالمسبب عن السبب ، فاما الاكتفاء بالسبب عن المسبب فكقوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ)(١). فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودلّ به على المسبب وهو الوحي الى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعليه قول المتنبي :
أتى الزمان بنوه في شبيبته |
فسرّهم وأتيناه على الهرم |
أي : فساءنا.
وأما حذف الجملة غير المفيدة من هذا الضرب فكقوله تعالى حكاية عن مريم ـ عليهاالسلام ـ :(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)(٢). فقوله : (لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) تعليل معلّله محذوف أي : وإنّما فعلنا ذلك لنجعله آية للناس ، فذكر السبب الذي صدر الفعل من أجله وهو جعله آية للناس ودلّ به على المسبب الذي هو الفعل.
وأما الاكتفاء بالمسبب عن السبب فكقوله تعالى :(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)(٣). أي : إذا أردت قراءة القرآن فاكتف بالمسبب الذي هو القراءة عن السبب الذي هو الارادة. والدليل على ذلك أنّ الاستعاذة قبل القراءة والذي دلت عليه أنّها بعد القراءة.
الثالث : الإضمار على شريطة التفسير ، وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتي به في آخره فيكون الآخر دليلا على الأول. وهو ثلاثة أوجه (٤).
١ ـ أن يأتي على طريق الاستفهام فتذكر الجملة الاولى دون الثانية كقوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٥).
تقدير الآية : أفمن شرح الله صدره للاسلام كمن أقسى قلبه؟ ويدل على المحذوف قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ.)
٢ ـ أن يرد على حد النفي والاثبات كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا)(٦) تقديره : لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل ومن أنفق بعده وقاتل. ويدل على المحذوف قوله :(أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا.)
٣ ـ أن يرد على غير هذين الوجهين فلا يكون استفهاما ولا نفيا واثباتا كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ)(٧). فالمعنى في الآية : والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القرب الخالصة لوجه الله ـ تعالى ـ وقلوبهم وجلة ، أي : خائفة من أن ترد عليهم صدقاتهم. فحذف قوله : «ويخافون ان ترد عليهم هذه النفقات» ودلّ عليه بقوله : (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ.) فظاهر الآية أنّهم وجلون من الصدقة وليس وجلهم لأجل الصدقة وانما وجلهم لأجل خوف الرد المتصل بالصدقة.
ومنه قول أبي تمام :
يتجنب الآثام ثم يخافها |
فكانّما حسناته آثام |
والتقدير : أنّه يتجنب الآثام فاذا تجنبها فقد أتى بحسنة ثم يخاف أن لا تكون تلك الحسنة مقبولة
__________________
(١) القصص ٤٤ ـ ٤٥.
(٢) مريم ٢٠ ـ ٢١.
(٣) النحل ٩٨.
(٤) المثل السائر ج ٢ ص ٨٦ ، الجامع الكبير ص ١٢٥ ، الطراز ج ٢ ص ٩٧.
(٥) الزمر ٢٢.
(٦) الحديد ١٠.
(٧) المؤمنون ٦٠.