تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ)(١) معناه : ربّنا يعلم إنّا لصادقون. ومنه قول هدبة ابن الخشرم :
فإن تقتلوني في الحديد فاننّي |
قتلت أخاكم مطلقا لم يقيّد |
فان معناه : فان تقتلوني مقيدا وهو ضد المطلق ، فطابق بينهما بالمعنى : وقول المقنع الكندي :
لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنى |
وإن قلّ مالي لا أكلّفهم رفدا |
فقوله : «إن تتابع» في قوة قوله : «ان كثر» والكثرة ضد القلة ، فهو طباق بالمعنى لا باللفظ (٢).
والطباق الذي يأتي بألفاظ الحقيقة ثلاثة أقسام :
الأول : طباق الايجاب ، وهو الجمع بين الشيء وضده ، كالأمثلة السابقة.
الثاني : طباق السلب ، وهو الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي أو أمر ونهي كقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(٣) ، وقول الشاعر :
وننكر إن شئنا على الناس قولهم |
ولا ينكرون القول حين نقول |
وقول البحتري :
يقيّض لي من حيث لا أعلم النوى |
ويشري اليّ الشّوق من حيث أعلم |
الثالث : طباق الترديد ، وهو أن يرد آخر الكلام المطابق على أوله فإن لم يكن الكلام مطابقا فهو ردّ الاعجاز على الصدور. ومثاله قول الأعشى :
لا يرقع الناس ما أو هوا وإن جهدوا |
طول الحياة ولا يوهون ما رقعوا |
ومن الطباق نوع يسمّى الطّباق الخفيّ والملحق بالطباق ، وهو الجمع بين معنيين بتعلق أحدهما بما يقابل الآخر نوع تعلق مثل السببية واللزوم كقوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(٤) ، فإنّ الرحمة وإن لم تكن مقابلة للشدة لكنها مسببة عن اللين الذي هو ضد الشدة. ومنه قول التهامي :
والهون في ظلّ الهوينى كامن |
وجلالة الأخطار في الاخطار |
فان جلالة الأخطار وان لم تكن مقابلة للهون لكنها لازمة للعز المقابل للهون (٥).
ولا يكفي أن يؤتى بالتضاد أو المطابقة بعيدة عن أي هدف ، مجردة عن أي تأثير ، وإنما ينبغي أن تأتي مرشحة بنوع من البديع لكي تكتسب جمالا.
قال الحموي : «والذي أقوله إنّ المطابقة التي يأتي بها الناظم مجردة ليس تحتها كبير أمر ، ونهاية ذلك أن يطابق الضد بالضد وهو شيء سهل ، اللهم إلا أن تترشح بنوع من أنواع البديع وتشاركه في البهجة والرونق ، كقوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٦) ، ففي العطف بقوله تعالى : (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) دلالة على أنّ من قدر على الافعال العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من شاء من عباده. وهذه مبالغة التكميل المشحونة بقدرة الرب سبحانه وتعالى. فانظر الى عظم كلام الخالق هنا فقد اجتمع فيه المطابقة الحقيقية والعكس الذي لا يدرك لو جازته وبلاغته ومبالغة التكميل التي لا تليق بغير قدرته. ومثل ذلك قول امرئ القيس :
__________________
(١) يس ١٥ ـ ١٦.
(٢) أنوار الربيع ج ٢ ص ٣٣.
(٣) الروم ٦ ـ ٧.
(٤) الفتح ٢٩.
(٥) تحرير التحبير ص ١١٤ ، بديع القرآن ص ٣٢ ، الايضاح ص ٣٣٤ ، التلخيص ص ٣٤٧ ، خزانة الأدب ص ٧١ ، معترك ج ١ ص ٤١٤ ، شرح عقود الجمان ص ١٠٧ ، الأطول ج ٢ ص ١٨٣.
(٦) آل عمران ٢٧.