وقال : «ومن أسمائه أيضا الإغراق والإفراط ومن الناس من يرى أنّ فضيلة الشاعر إنّما هي في معرفته بوجوه الإغراق والغلوّ ولا أرى ذلك إلّا محالا لمخالفته الحقيقة وخروجه عن الواجب والمتعارف» (١) ، ثم قال : «وأصحّ الكلام عندي ما قام عليه الدليل وثبت فيه الشاهد من كتاب الله تعالى ونحن نجده قد قرن الغلو فيه بالخروج عن الحق فقال جلّ من قائل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ)(٢).
ومنهم من يرى (٣) أنّ أحسن الغلوّ ما نطق فيه بـ «كاد» و «كأنّ» و «لو لا» كقول زهير :
لو كان يقعد فوق الشمس من شرّف |
قوم بأحسابهم أو مجدهم قعدوا |
وقول أبي صخر الهذلي :
تكاد يدي تندى اذا ما لمستها |
وينبت في أطرافها الورق الخضر |
وقوله تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ)(٤) وقوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها)(٥) ، وقوله :(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ)(٦).
وفرّق المصري بين الغلوّ والإغراق لأنّ منهم «من يجعله هو والإغراق شيئا واحدا» (٧) وقال : «وقد رأيت من لا يفرّق بين الغلوّ والإغراق ويجعل التسميتين لباب واحد وهي عندي أنّ معنى البابين مختلف كاختلاف اسميهما إلا أنّ الإغراق أصله في النزع وأصل في النزع وأصل الغلوّ بعد الرمية وذلك أنّ الرامي ينصب غرضا يقصد إصابته فيجعل بينه وبينه مدى يمكن معه تحقيق ذلك الغرض فاذا لم يقصد غرضا معيّنا ورمى السهم إلى غاية ما ينتهي اليه بحيث لا يجد مانعا يمنعه من استيفاء السهم قوته في البعد سميت هذه الرمية غلّوة فالغلو مشتق منها. ولما كان الخروج عن الحق الى الباطل يشبه خروج هذه الرمية عن حدّ الغرض المعتاد الى غير حدّ سمّي غلوّا. قال الله سبحانه وتعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ)(٨) وهو لا يعدّ من المحاسن إلا اذا اقترن به ما يقرّ به من الحق كـ «قد» للإحتمال و «لو» و «لو لا» للامتناع و «كاد» للمقاربة واداة التشبيه وآلة التشكيك وأشباه ذلك من القرائن اللفظية» (٩)
وفرّق ابن الأثير الحلبي بين الإغراق والغلو والمبالغة فقال : الإغراق والغلوّ والمبالغة هي ثلاث تسميات متقاربة وردت في باب واحد لقرب بعضها من بعض وسنذكر التمييز بين كل نوع منها. فاما الإغراق فهو الزيادة في المبالغة حتى يخرجها عن حدّها ... وأما الغلوّ فهو الزيادة في الخروج عن الحدّ ... وأما المبالغة فهي مشتقّة من «بلغ المنزل واديا» : جاءه. وحدّها بلوغ القصد من غير تجاوز الحدّ» (١٠).
والغلوّ عند ابن مالك ضربان (١١). مقبول ومردود ، فالمقبول أن لا يتضمّن دعوى كون الوصف على مقدار غير ممكن الوصف بما هو خارج عن طباق الموصوف. وهو قسمان :
أولاهما بالقبول ما اقترن به ما يقربه من الحق كقول الشاعر يصف فرسا :
ويكاد يخرج سرعة عن ظلّه |
لو كان يرغب في فراق رفيق |
والقسم الآخر ما كان غير مقترن ، كقول الشاعر :
__________________
(١) العمدة ج ٢ ص ٦٠.
(٢) المائدة ٧٧.
(٣) الوافي ص ٢٦٨ ، قانون البلاغة ص ٤٤٢ ، الرسالة العسجدية ص ١٥٤.
(٤) البقرة ٢٠.
(٥) النور ٤٠.
(٦) النور ٣٥.
(٧) حسن التوسل ص ٢٧٦ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٤٩ ، الروض المريع ص ١٠٣.
(٨) المائدة ٧٧.
(٩) تحرير التحبير ص ٣٢٣.
(١٠) جوهر الكنز ص ١٣٥.
(١١) المصباح ص ١٠٣.