مشاركا له في معنى بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلا بأمر ينفرد ويكون ذكر الذي قبله وترك الذكر سواء في حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأسا ، وحق هذا ترك العطف البتة.
فترك العطف يكون إمّا للاتصال الى الغاية ، أو الانفصال الى الغاية ، والعطف لما هو واسطة بين الامرين ، وكان له حال بين حالين ، فاعرفه» (١)
وعلى هذا الأساس وضع عبد القاهر أصول بحث الفصل والوصل وقوانينه وذكر الأمثلة الكثيرة وحلّلها تحليلا علميّا وأدبيّا. وجاء علماء البلاغة فاختصروا بحوثه وبوبوها وكان تحديدهم أدقّ ضبطا وقواعدهم أكثر تقييدا. وكان السّكّاكي من أشهر الذين اتبعوه ولكنّه لم يوضح الموضوع او يبحثه بحثا مناسبا ، وانصرف الى الكلام على الجامع وأنواعه (٢) ، واستفاد القزويني وشرّاح التلخيص من عبد القاهر والسّكاكي وجمعوا بين تحديد القاعدة والشرح والتحليل (٣).
وقد اتّفق البلاغيون على أنّ الفصل يجب في خمسة مواضع :
الأوّل : أن يكون بين الجملتين اتحاد تام وهو «كمال الاتصال» وذلك أن تكون الجملة الثانية تأكيدا للأولى والمقتضي للتأكيد دفع توهم التجوز والغلط وهو قسمان :
أحدهما : أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في المعنى كقوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(٤) فانّ وزان (لا رَيْبَ فِيهِ) وزان «نفسه» في مثل : «جاءني محمد نفسه».
وثانيهما : أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي من متبوعه في اتحاد المعنى كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٥) ، فان (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) معناه : أنّه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة.
ومن أمثلة كون الجملة الثانية توكيدا للأولى قول المتنبي :
وما الدّهر إلا من رواة قصائدي |
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا |
فالجملة «إذا قلت ...» توكيد للاولى ؛ لأنّ معنى الجملتين واحد.
أو أن تكون الجملة الثانية بدلا من الاولى ، وهو ضربان :
أحدهما : أن تنزل الثانية من الاولى منزلة بدل البعض (٦) من متبوعه كقوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)(٧) فانه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين ، وقوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أوفى بتأديته مما قبله لدلالته عليها بالتفصيل من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين ، والأمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الأمداد بما يعلمون ويحتمل الاستئناف.
وثانيهما : أن تنزل الثانية من الاولى منزلة بدل الاشتمال (٨) من متبوعه كقوله تعالى : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ
__________________
(١) دلائل الاعجاز ص ١٨٧.
(٢) مفتاح العلوم ص ١٢٠.
(٣) الايضاح ص ١٤٧ ، التلخيص ص ١٧٥ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ٢ ، المطول ص ٢٤٧ ، الاطول ج ٢ ص ٢ ، التبيان في البيان ص ١٠١.
(٤) البقرة ١ ـ ٢.
(٥) البقرة ٢.
(٦) بدل البعض : هو بدل الجزء من كله قليلا كان ذلك الجزء او مساويا للنصف أو اكثر منه. مثل : «جاء للطلاب ربعهم أو نصفهم أو ثلثاهم».
(٧) الشعراء ١٣٢ ـ ١٣٤.
(٨) بدل الاشتمال : هو بدل الشيء مما يشتمل عليه على شرط ان لا يكون جزء منه مثل : «نفعني المعلم علمه» و «أحببت خالدا شجاعته».