مُهْتَدُونَ)(١) فان المراد به حمل المخاطبين على اتباع الرسل ، وقوله : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أوفى بتأدية ذلك ، لأنّ معناه : لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة. ومنه قول الشاعر :
أقول له ارحل ، لا تقيمنّ عندنا |
وإلا فكن في السرّ والجهر مسلما |
وقد فصل «لا تقيمنّ» عن «ارحل» لقصد البدل ؛ لأنّ المقصود من كلامه هذا كمال اظهار الكراهة لاقامته بسبب خلاف سره العلن. وقوله : «لا تقيمنّ عندنا» أوفى بتأدية هذا المقصود من قوله : «ارحل» لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد.
أو أن تكون الثانية بيانا للأولى وذلك بأن تنزل منها منزلة عطف البيان من متبوعة في إفادة الايضاح والمقتضي للتبيين أن يكون في الاولى نوع خفاء مع اقتضاء المقام ازالته كقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ، قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)(٢) ، فصل جملة (قالَ) عما قبلها لكونها تفسيرا له وتبيينا.
ومنه قول أبي العلاء :
الناس للناس من بدو ومن حضر |
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم |
فالجملة الثانية «بعض لبعض ...» إيضاح للاولى «الناس للناس» وهي بيان لها.
الثاني : أن يكون بين الجملتين كما الانقطاع وذلك أن تختلف خبرا وإنشاء لفظا ومعنى كقوله الشاعر :
وقال رائدهم ارسوا نزاولها |
فكلّ حتف امرىء يجري بمقدار |
فالجملة الاولى «ارسوا» انشاء لفظا ومعنى «نزاولها» خبر لفظا ومعنى.
أو معنى لا لفظا مثل : «مات فلان رحمهالله» فالجملة الاولى خبرية لفظا ومعنى والثانية انشائية معنى لا لفظا ، لأنّ لفظ الفعل خبر لا أمر.
أو أن لا يكون بين الجملتين جامع أو مناسبة بل تكون كل جملة مستقلة بنفسها مثل : «الليل رهيب ، أقبل محمد» ولا صلة بين الجملتين ولذلك ترك العطف بينهما لكمال الانقطاع.
الثالث : أن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال يفهم من الجملة الاولى فتنزل منزلته ويسمى هذا «شبه كمال الاتصال» أو «الاستئناف». والاستئناف ثلاثة أضرب لأنّ السؤال الذي تضمنته الجملة الاولى إما عن سبب الحكم فيها مطلقا كقول الشاعر :
قال لي كيف أنت قلت عليل |
سهر دائم وحزن طويل |
أي : ما بالك عليلا؟ أو ما سبب علتك؟
وقول الآخر :
وقد غرضت من الدنيا فهل زمني |
معط حياتي لغرّ بعد ما غرضا (٣) |
|
جرّبت دهري وأهليه فما تركت |
لي التجارب في ودّ امرىء غرضا |
أي : لم تقول هذا؟ وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة الى هذا الحد؟ أي : تعرض عنها.
أو عن سبب خاص له كقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(٤) كأنه قيل هل النفس أمّارة بالسوء؟ فقيل : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ.)
أو عن غير هذين النوعين كقوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ)(٥) كأنه قيل : فماذا قال إبراهيم
__________________
(١) يس ٢٠ ـ ٢١.
(٢) طه ١٢٠.
(٣) غرض : ضجر ومل. الغر : من لا تجربة له.
(٤) يوسف ٥٣.
(٥) هود ٦٩.