قد نفض العاشقون ما صنع ال |
هجر بألوانهم على ورقه |
فمدار البيت موضوع على أنه أصفر. وليس كذلك الإرصاد الذي اتفق عليه المتأخرون كالقزويني الذي قال : «الارصاد ويسمى التسهيم أيضا ، وهو أن يجعل قبل العجز من الفقرة أو البيت ما يدل على العجز اذا عرف الرويّ» (١) ، وتبعه في ذلك شراح تلخيصه كالسبكي والتفتازاني والاسفراييني والمغربي (٢).
وفرّق الحموي بين التوشيح والتسهيم فقال : «اتفق علماء البديع على أنّ التوشيح أن يكون معنى أول الكلام دالا على لفظ آخره ولهذا سموه التوشيح فانه ينزل فيه المعنى منزلة الوشاح وينزل أول الكلام وآخره منزلة محل الوشاح من العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح» (٣). وقال عن التسهيم : «وتعريفه أن يتقدم من الكلام ما يدلّ على ما يتأخر تارة بالمعنى وتارة باللفظ كأبيات أخت عمرو ذي كلب فان الحذاق بمعاني الشعر وتأليفه يعلمون معنى قولها : «فاقسم يا عمرو لو نبهاك» يقتضي أن يكون تمامه : «إذن نبها منك داء عضالا» دون غيره من القوافي لأنه قال مكان «داء عضالا» : ليثا غضوبا ، أو : أفعى قتولا ، أو ما ناسب ذلك لكان «الداء العضال» أبلغ إذ كل منهما ممكن مغالبته والتوقي منه ، والداء العضال لا دواء له.
وهذا مما يعرف بالمعنى ، وأما ما يدلّ على الثاني دلالة لفظية فهو قولها بعده :
إذن نبّها ليث عرّيسة |
مقيتا مفيدا نفوسا ومالا |
|
وخرق تجاوزت مجهولة |
بوجناء حرف تشكّى الملالا |
|
فكنت النهار به شمسه |
يقتضي أن يتلوه :
وكنت دجى الليل فيه الهلالا
ومنه قول البحتري :
أحلّت دمي من غير جرم وحرّمت |
بلا سبب يوم اللقاء كلامي |
|
فليس الذي قد حلّلت بمحلل |
ومن هنا يعرف المتأدب أنّ تمامه :
وليس الذي قد حرّمت بحرام (٤)
وهذا الفن من محمود الصنعة لأنّ خير الكلام ما دلّ بعضه على بعض (٥) ومن أمثلته في كتاب الله قوله : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٦). فاذا وقف السامع على قوله تعالى : (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ) عرف أنّ بعده (يَخْتَلِفُونَ) لما تقدم من الدلالة عليه. ومنه قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)(٧) ، فاذا وقف السامع على قوله ـ عزوجل ـ (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) علم أنّ بعده (لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٨) ، فانّ أول الآية يدل على آخرها.
ومنه قول زهير :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش |
ثمانين حولا ـ لا أبا لك ـ يشأم |
وقول الآخر :
__________________
(١) الايضاح ص ٣٤٧ ، التلخيص ص ٣٥٦.
(٢) شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٠٥ ، المطول ص ٤٢٢ ، الأطول ج ٢ ص ١٩٠.
(٣) خزانة الأدب ص ١٠٠.
(٤) خزانة الأدب ص ٣٧٤.
(٥) المثل السائر ج ٢ ص ٣٤٨ ، الجامع الكبير ص ٢٣٨.
(٦) يونس ١٩.
(٧) العنكبوت ٤١.
(٨) العنكبوت ٤٠.