حتى يقتلوا دون الأسر واعطاء اليد ، فانّ المقابلة حينئذ تصحّ وتترتب على ما شرطنا وهذه عندهم تسمى «مقابلة الاستحقاق» ويقرب منها قول أبي الطيب :
رجلاه في الركض رجل واليدان يد |
وفعله ما تريد الكفّ والقدم |
لأنّ الكفّ من اليد بمنزلة القدم من الرجل فبينهما مناسبة وليست مضادة ولو طلبت المضادة لكان الرأس أو الناصية أولى» (١).
وقسّمها ابن قيّم الجوزية الى مقابلة لفظية ومعنوية (٢) وقسّمها الزركشي الى ثلاثة أقسام : نظيري ونقيضي وخلافي (٣) ، ومثال المقابلة النظيرين مقابلة السنة والنوم في قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)(٤) لأنهما جميعا من باب الرقاد المقابل باليقظة.
ومثال مقابلة النقيضين قوله تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)(٥) ، ومثال مقابلة الخلافين قوله تعالى : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)(٦). قال المدني : «وهذا تقسيم غريب قلّ من ذكره ، ولعل قائله تفرد به» (٧) وقسّم بعضهم المقابلة الى أربعة أنواع (٨).
الأوّل : أن يأتي بكل واحد من المقدّمات مع قرينه من الثواني كقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً)(٩).
الثاني : أن يأتي بجميع الثواني مرتّبة من أوّلها كقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(١٠).
الثالث : أن يأتي بجمع المقدّمات ثم بجمع الثواني مرتّبة من آخرها ويسمّى ردّ العجز على الصدر كقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١١).
الرابع : أن يأتي بجميع المقدّمات ثم بجميع الثواني مختلطة غير مرتّبة ويسمّى اللّف كقوله تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(١٢) فنسبة قوله :(مَتى نَصْرُ اللهِ) الى قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) كنسبة قوله : (يَقُولَ الرَّسُولُ) الى (إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) لأنّ القولين المتباينين يصدران عن متباينين.
والمقابلة اذا استعملت في موضعها كانت بديعة كما ظهر في الأمثلة السابقة ، وهي والمطابقة تزيد المعنى وضوحا ، اما اذا استعملت في غير موضعها كانت فاسدة نابية ، وقد أشار قدامة الى ذلك وتكلّم على فساد المقابلات وقال : «ومن عيوب المعاني فساد المقابلات وهو أن يضع الشاعر معنى يريد أن يقابله بآخر إما على جهة الموافقة أو المخالفة فيكون أحد المعنيين لا يخالف الآخر ولا يوافقه ، مثل ذلك قول أبي عدي القرشي :
يا ابن خير الأخيار من عبد شمس |
أنت زين الدنيا وغوث الجنود |
فليس قوله : «وغيث الجنود» موافقا لقوله : «زين الدنيا» ولا مضادا ، وذلك عيب» (١٣). وقال العسكري : «وفساد المقابلة أن تذكر معنى تقتضي الحال ذكرها بموافقة أو مخالفة فيؤتى بما لا يوافق ولا يخالف مثل أن يقال «فلان شديد البأس نقي الثغر» أو «جواد الكلف أبيض الثوب» أو تقول : «ما صاحبت
__________________
(١) العمدة ج ٢ ص ١٦.
(٢) الفوائد ص ١٤٧.
(٣) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤٥٨.
(٤) البقرة ٢٥٥.
(٥) الكهف ١٨.
(٦) الجن ١٠.
(٧) أنوار الربيع ج ١ ص ٣٠٠.
(٨) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٤٦٠.
(٩) النبأ ١٠ ـ ١١.
(١٠) القصص ٧٣.
(١١) آل عمران ١٠٦ ـ ١٠٧.
(١٢) البقرة ٢١٤.
(١٣) نقد الشعر ص ٢٢٩.