وجاء قضى بمعنى خلق كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وبمعنى فصل الحكم كقوله تعالى (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) وبمعنى أمر (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وبمعنى الإخبار والاعلام كما في مقامنا هذا. وقال صاحب كتاب الأنوار : قضى هنا بمعنى الوحي كما أشرنا إليه لكن يظهر من نفس الآية خلاف هذا التغيير لأنّ ظاهر الظرف تعلّقه بالفعل المزبور في صدر الكريمة والإخبار يمكن أن يكون في الكتاب بذكره فيه بخلاف الوحي والإلهام فإنهما من الأمور المعنوية التي تقذف وتلقى في النفس ، والله اعلم بما له والمراد بالكتاب هو التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) والمراد بالفساد هنا بقرينة التحديد هو القتل واللّام الداخلة على الفعل للتأكيد أي : حقّا لا شكّ فيه أن أخلافكم سيغدون في البلاد والأرض المقدسة هي بيت المقدس ونواحيها الّتي جعل الله فيها البركة ولعله أريد من الفساد معناه الأهم من أقسام الظلم وسفك الدماء وأخذ الأموال واستحياء النساء ، نعوذ بالله من شر النفس الأمّارة بالسّوء. (مَرَّتَيْنِ) أوّلهما قتل شعيا النبي ، وثانيهما قتل زكريا ويحيى على قول ، وعلى قول أن زكريا مات حتف أنفه والمقتول هو يحيى فقط. (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) بالاستكبار عن طاعة الله وظلم النّاس ظلما عظيما. والعلوّ هو الجرأة على الله تعالى والتّعرض لسخطه.
٥ ـ (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) ... أي عقاب المرّة الأولى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) أي سلّطنا عليكم على وجه التخلية ، وإضافة العباد إلى ذاته المقدّسة مع أن المراد منهم الظّلمة ، ليست تشريفيّة ومدحا ، بل إضافة خلق ، أي نرسل إليهم جماعة من مخلوقينا للانتقام لمن قتلوه من النبيّين والمظلومين في دار الدّنيا حسما لمادّة الفساد ، وإلّا فالانتقام الأكمل الأتم ، فهو في الآخرة. والمنتقمين المبعوثين إليهم في الأولى قيل بأنهم بخت نصّر وقيل سابور ذو الأكتاف من ملوك الفرس ، وقيل جالوت فقتله داود ، وفي الثاني بخت نصّر وهو رجل خرج من بابل ، (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي شوكة وقوة ونجدة ، مثل هؤلاء الملوك والأمراء ، وخلّينا بينكم وبينهم خاذلين لكم جزاء