٤٤ ـ (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ... كرّر مخاطبته بلطف عجيب يستدعي استثارة العاطفة وسماع الدعوة ، وقال له : انته عن عبادة الشيطان بإطاعته والسير مع وسوسته وإغرائه (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) كثير العصيان. وقد دعاه بأحسن دعوة واحتجّ عليه بأبلغ احتجاج واستعمل منتهى الرفق والمداراة وإظهار أدب المخاطبة مع الأب أو العم أو الجد كما لا يخفى في الآيات الثلاث ، ولا بدّ لكلّ مبلّغ أن يتعلّم من هذه الطريقة الفذّة من التعليم والإبلاغ والإرشاد.
٤٥ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ) ... أي إني أخشى عليك من أن يصيبك عذاب مؤلم (مِنَ الرَّحْمنِ) الربّ الرؤوف بالناس (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) مواليا للشيطان ومحبّا له ومطيعا لأوامره كأنه سيّدك الذي استخدمك كما شاء ، فأدت إطاعتك له إلى العذاب والخسران.
٤٦ ـ (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) ... فانظر كيف عارضة بضدّ ما بلّغه خلقا ومنطقا وأدبا. فقد قابل استعطافه ولطفه وحسن أدبه في إرشاده ، بألفاظ فظة غليظة ، وبسوء أدب إذ ناداه باسمه ولم يقل له : يا بنيّ ، ثم أخرّه في البيان ، وهذان الأمران شتم في لغة العرب ، مضافا إلى أنه صدّر كلامه بهمزة الإنكار وبضرب من التعجّب ، وهذا استهزاء بتبليغه ، يضاف إليه أيضا أن قال له : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) لم تسكت وتدع هذا الأمر الذي جئت به (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأقتلنّك رجما بالحجارة حتى تموت تحت ضرباتها ، فانته عمّا أنت فيه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي اتركني وابتعد بنفسك عنّي زمانا طويلا. وهذا عطف على قساوته وعلى ما يدل عليه الرّجم من التهديد والتحذير ، أي فاحذرني واهجرني .. ويحتمل أن تكون الواو بمعنى : أو ، فيكون المراد : إن لم تنته عن التعرّض للأصنام لأرجمنّك ، إلّا أن تبتعد عنّي وترحل عن بلادنا دهرا طويلا فنهلك نحن أو تهلك أنت.
فلما أيس إبراهيم عليهالسلام من إيمان عمّه آزر بعد ذلك التهديد