وربيبو عزّ ومجد ، فإن قول يوسف (ع) : إذ أنتم جاهلون ، أوحى إليهم بهذا الاعتراف الفوريّ الذي لم يكن منه بد ، قد لقّنهم وجه الاعتذار والمسارعة للاعتراف بالذنب والمبادرة للتسليم بفضله.
ولما أحسّ يوسف (ع) منهم الخجل والخوف لم يتركهم عرضة للوساوس وقتا ما ، بل أسرع في الصفح عنهم وقال :
٩٢ ـ (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ... أي لا توبيخ ولا تعيير ولا خوف عليكم في هذا الوقت من جرّاء ما فعلتم مع أبي ومعي ومع أخي ولو كنتم تظنون ذلك فكونوا آمنين مطمنّين. وبالفعل صدر الأمر الملكيّ بإخفاء أمر إخوته ، ولم يتكلم أحد بما جرى من أمرهم في رحلتهم السابقة التي فقد فيه الصاع. وفي هذا كمال السماحة وغاية الكرم والشهامة ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، فقد هدّأ خواطرهم وقال : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فلم يكتف بعفوه وتنازله عن حقه (ع) بل طلب لهم المغفرة والعفو من الله سبحانه وتعالى بلا تراخ ولا تأجيل ، فيا عجبا من حلم الأنبياء وخلقهم العظيم! فعن ابن عباس أن نبيّنا محمد صلىاللهعليهوآله في يوم فتح مكة أخذ بحلقة باب البيت الحرام : وكان أهل مكة قد التجأوا إلى الحرم خوفا من المسلمين ثم نادى (ص) : أيها الناس : الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده. ما ظنّكم بي مع ما صنعتم لي من تكذيبي وتبعيدي عن أهلي ووطني وأذيّتي؟ فقالوا : ما نظنّ بك إلّا خيرا حيث إنك كريم وصاحب خلق عظيم ، نعتمد على كرمك العميم ـ أنت أخ كريم وابن أخ كريم ـ. فقال بأبي وأمي : أنا عامل معكم ما عامل به أخي يوسف إخوته ، قال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم .. اذهبوا فأنتم الطّلقاء.
والحاصل أن يوسف (ع) لمّا فرغ من أمر إخوته وأنزلهم منزل الإعزاز والإكرام ، عرّفهم أنهم إخوة هذا الذي أمدّه الله بمجد باذخ وسلطان عظيم وهم إلى جانب ذلك أولاد أنبياء مكرمين وقد صاروا في سلطانه معزّزين