بقاعدة المساواة التي قلناها ولوجب حصول جسم في حيّز معيّن ووجب حصوله في جميع الأحياز ، ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة ، فحصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها المعيّنة ليس أمرا واجبا لذاته ، والخلاء لا نهاية له ، فحصول جسم معيّن بحيّز معيّن دون حيّز مع أن الأحياز متساوية والخلاء لا نهاية له ، لا بدله من مخصّص ومرجّح ، وليس إلّا الله تعالى وعزّت قدرته. ولا يجوز أن يقال إنها اختصّت وبقيت في حيّز معيّن بسلسلة فوقها إذ يعود الكلام الى السلسلة ولما تعلّقت به ويلزم الدّور أو التسلسل إلى ما لا نهاية له وهو محال ، فثبت أن هذه الخصوصيات قائمة بمدبّر غيرها وهو هو تعالى شأنه العزيز ، فهذا برهان قاطع على وجود الصانع تعالى ، فيا له من قادر حكيم خلق هذه الكائنات المدهشة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى عليه بالتقدير والتدبير المستقيم للأجسام والأجرام التي كوّنها من جهة اقتداره ونفوذ سلطانه. ويقال استوى على سرير الملك كناية عن التملّك والاستقرار (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّلهما لمنافع خلقه ، والمسخّر هو المهيّأ لأن يجري بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النّار للإسخان والماء للجريان (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت مضروب معيّن يتمّ فيه أدواره بناء على أن المراد بالأجل المسمّى منازلهما التي ينتهيان إليها ولا تتجاوزانها ، فالشمس تقطع تلك المنازل والبروج في كلّ سنة ، والقمر في كلّ شهر حتى ينتهيان إلى آخر السنة ويرجعان إلى أولى المنازل بطبعهما وطبيعتهما التي جعلها الله الحكيم القدير لهما من غير احتياج إلى معين ، ذلك تقدير العزيز الحكيم. فالبروج اثنا عشر برجا ، والمنازل ثمانية وعشرون ، والقمر ينزل كلّ ليلة بواحدة من مستهلّه إلى ثمانية وعشرين من الشهر ، ثم يستر ، واستتاره محاقه ، حتى لا يرى منه شيء. فإن كان الشهر تسعة وعشرين يوما استتر ليلتي ثمان وعشرين وتسع وعشرين ، وإن كان الشهر ثلاثين يوما استتر القمر ليلتي تسع وعشرين وثلاثين. فعلى هذا يكون محاقه ليلتين. وهذه المنازل يبدو القمر منها في أربع عشرة منزلة بالليل فوق الأرض ، ويخفى منها أربع عشرة