الناس إليكم ، فلمّا بلغت النخلة أخذها المخاض فوضعت عيسى عليهالسلام هناك .. وإمّا أن يكون الألف واللام للجنس ، ومعناه : جذع ذلك النوع من الأشجار ، وهو النخل. والتاء تدل على انحصارها ووحدتها في تلك البادية. ولكنّ الاحتمال الأول ـ كونها للعهد ـ أقرب للصواب. والجذع هو ما بين العرق والأغصان ، ويعبّر عنه بالساق. وكانت النخلة يابسة نخرة لا رأس لها ولا فروع ولا أوراق (قالَتْ) : مريم عليهاالسلام عند المخاض : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) الأمر الذي ابتليت به ، وكلامها هذا من طبائع الصالحين وعادتهم ، فإنهم إذا وقعوا في بلية عظيمة أو مصيبة شديدة لا يتحمّلها إلّا أولياء الله وأصفياؤه تضيق صدورهم ويتمنّون الموت. وقد قال مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام يوم الجمل : يا ليتني متّ قبل هذا اليوم ، وعلى قبر فاطمة الزهراء عليهاالسلام تمنّى لو كان مات قبل ذلك. وروي أن بلالا قال : ليت بلالا لم تلده أمّه. وكذا قال سيدنا علي بن الحسين عليهالسلام : فيا ليت أمّي لم تلدني ، ومثله قال سيدنا الإمام الشهيد أبو عبد الله الحسين عند ما وقف على رأس ابنه عليّ الأكبر عليهماالسلام عند قتله. فعلى كل حال قالت مريم عليهاالسلام : يا ليتني متّ (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) النّسي بكسر النون ، وقرئ بفتحها ، وهو ما يتركه المرتحلون من رذال متاعهم الذي من شأنه أن يترك ويطرح ، وقد عبّر بعضهم عنه بخرقة الطمث. وفي تعبيرها هذا مبالغة عجيبة حيث إنها تمنّت العدم الأزليّ لا العدم بعد الوجود ، فإن قولها : يا ليتني متّ ، ولو كان ظاهرا في الانعدام بعد الوجود ، لكن أعرضت عن هذا الظهور ، أو فسّرت مقصودها من صدر الكلام بذيله المفيد لما ذكرناه. ويؤيّد ما ذكرناه من مرادها عليهاالسلام أن الإنسان الشريف إذا صدر عنه ـ ولو بغير اختياره ـ أمر موجب لاتّهامه وذهاب شرفه ، فإنه يحب ويتمنّى عدمه أزلا ، لأنه بهذا الفرض لا يصدر عنه ذلك العمل الشنيع ولو كانت شناعة نسبيّة بنظر الناس لا بحسب الواقع. والمنسيّ أيضا منسيّ الذّكر بحيث لا يخطر ببال أحد حتى يذكره بسوء أو يلومه ، وهذا أيضا لا تحصل له مرتبته الراقية