قول الله : ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبيّنات؟.
ولمّا بعث موسى بن عمران عليهالسلام أخرج يوسف (ع) من النيل وحمله إلى بيت المقدس ودفنه في مقابر آبائه الصالحين ، وكان بين يوسف (ع) وبين موسى أربعمائة سنة ، وكان يوسف (ع) من عظماء رجال الدّين والزهد والسياسة والتدبير. ويكفي في تدبيره أنه أبقى على نفوس أهل مصر مع براريها وبواديها وما حولها في سبع سنوات مجدبة وأبقى معهم وإلى جانبهم جميع أهل كنعان والشام ونواحيهما ، ولو لا حسن تدبيره وتقديره لهلك كلّهم أو جلّهم موتا من الجوع في هذه المدة الطويلة من الجدب والقحط ، ويكفيه أنه لعظيم لباقته ومقدرته ألجأ الريان ـ فرعون مصر إلى أن يخلع نفسه ـ وهو صاحب الجاه والسلطان في مصر وتوابعهما ـ وأن يتوّج يوسف بتاج الملك وأن يلبسه رداء الحكم مع أن فراعنة مصر كانت تهابهم سلاطين الأرض وملوك الدنيا ولا يدخل أحد مصر إلّا من بعد إذنهم وإجازتهم ، كما أن العزيز الذي كان وزير المالية من قبل الريان عزل نفسه أيضا وفوّض مفاتيح خزائن مصر إليه مع أن يوسف عليهالسلام كان في الظاهر للناس عبده وهو مولاه قد اشتراه من تجار السيّارة التي ذكرها الله سبحانه سابقا ، كل ذلك بفضل الله عليه وبما أظهره من براعة السلوك وحسن الأخلاق والاستقامة وجميل السياسة مع أهل الملك والسلطان ومع سائر طبقات الناس على اختلاف عقائدهم وتشتّت آرائهم وأفكارهم ، فإنهم جميعا امتثلوا أوامره ونواهيه بشكل من الانقياد تتحيّر له العقول فليتأمل المفكّر وليعتبر المعتبر بما كان عليه يوسف من صفات الكمال والدّين ورسوخ العقيدة بمبدئه ومعاده ، يدلّنا على ذلك أنه عليهالسلام قد خلع نفسه من ملكه العظيم مرتين : إحداهما بعد أن تمّت له السلطة ، واستقرّ له الأمر ، وخضع له كل أبيض وأحمر وأسود لأنه ملكهم واشتراهم نساء ورجالا في السنة السابعة من سنوات الجدب كما ذكرنا وصاروا إماء يفعل بهم فرعون مصر ما يشاء ، ثم قال للفرعون : هذا تاجك ولك سلطانك وملكك الذي فوّضت أمره إليّ فقبلته لمصلحة اقتضت قبولي ، فافعل الآن