مرّ في المقدّمة الاولى ـ عبارة عن حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود القائم بذاته ، فاذا كانت الذات بعينها حاضرة عند الذات تكون الذات عاقلة للذات عالمة بها بالعلم الحضوري ؛
أمّا كون كلّ مجرّد قائم بذاته حاضرا عند ذاته غير غائب عنها فبديهي لا يقبل التشكيك ، لأنّ الشيء لا ينفكّ عن نفسه.
قيل : إن اريد بالحضور ما هو المساوق للادراك أو الانكشاف وأمثالها ، فنمنع كون كلّ مجرّد قائم بذاته حاضرا بهذا المعنى عند ذاته ؛
وإن كان المراد منه ما هو الظاهر المتعارف ـ أي : غير المنفكّ وغير المتبادر وغير الغائب ـ ، فلا ريب انّ كلّ مجرّد قائم بذاته حاضر بهذا المعنى عند ذاته ؛ إلاّ أنّ الحضور بهذا المعنى لا يستلزم الانكشاف ، فانّ كلّ شيء حاضر بهذا المعنى عند ذاته ، سواء كان قائما بذاته أو لا ، وسواء كان مجرّدا أم لا مع فقد الانشكاف.
فان قيل : الأشياء على أربعة اقسام :
الأوّل : ما ليس مجرّدا ولا قائما بنفسه ـ كالاعراض الجسمانية ـ ؛
الثاني : ما هو مجرّد غير قائم بذاته ـ كالصورة المعقولة للمجرّدات ـ ؛
والثالث : ما هو قائم بذاته غير مجرّد ـ كالجسم ـ ؛
والرابع : ما هو مجرّد قائم بذاته ـ كالواجب والعقول والنفس ـ. ولا ريب في أنّ الاقسام الثلاثة الاولى عالمة بذواتها ؛ بل التعقّل للذات مخصوص بالقسم الرابع ، فانّا ذكرنا في حدّ التعقّل انّه حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد القائم بالذات ، فالمراد بالحضور هو المعنى المتعارف. الاّ أنّ استلزامه للانكشاف إنّما إذا حصل الشيء عند مجرّد قائم بذاته لا عند غيره ؛
قلنا : انّ استلزام حضور الشيء بهذا المعنى عند المجرّد القائم بذاته لانكشافه لديه لا بدّ له من دليل ، وبأيّ برهان نحن نعتقد ونقطع بانّ المناط في جواز العاقلية هو التجرّد والقيام بالذات والمناط في وقوعها هو تحقّق حضور شيء بالمعنى المذكور عند من حصل له التجرّد والقيام بالذات؟! ، ولم لا يجوز أن يكون التعقّل مشروطا بأمر آخر؟! ،