أشدّ وأقوى من تجرّد سائر المجرّدات ، فيكون مشتملا على هذه القوّة والخاصية ، فيكون عاقلا لذاته ولسائر الأشياء. على أنّ النفوس الانسانية مع كونها في أحسن مراتب التجرّد عاقلة لذواتها ولبعض ما عداها ، فتكون مشتملة على تلك القوّة ، فكيف لا يتحقّق في الواجب الّذي هو في أعلى مراتب التجرّد مع كونها منشأ لزيادة التجرّد؟!. وعلى الثاني يلزم المنافاة وخلاف الفرض المثبت بالبرهان ، لأنّ المادّية مانعة من التعقّل فكلّما يكون أقرب إلى المادّية يكون أضعف تعقّلا ، وكلّما يكون أبعد منها واقوى تجرّدا يكون منشئيته للتعقّل أقوى ، فكيف يمكن أن يكون تلك القوّة مع منشئيته للقرب إلى المادّية ونقصان التجرّد منشأ للتعقّل ؛ والثالث غير ممكن ، لانّه لا يمكن أن يكون تجرّد شيء مع فرض انضمام شيء آخر إليه مساويا لتجرّده مع فرض عدم انضمام هذا الشيء إليه ، لأنّ هذا الشيء المنضمّ ان كان مقوّما وذاتيا للمجرّد من حيث هو مجرّد ، فلا ريب في استلزامه للتركيب العقلي. وان لم يوجب التركيب الخارجى ـ لعدم كونه ماديا ـ فيكون منشأ لنقصان التجرّد وضعفه البتة ، وان كان عرضا فامّا أن يكون شيئا متحقّقا خارجيا قائما بالمجرّد أو شيئا اعتباريا نفس أمريّ أو اعتباريا محضا ، والأخير لا يمكن أن يصير منشأ للأمر الحقيقي الواقعي ـ أعني : الظهور والانكشاف ـ ، والأوّلان يوجبان نوع تكثّر ـ لصيرورة المجرّد حينئذ محلاّ لأمر خارجي أو نفس أمري ـ. ولا ريب في أنّ المجرّد الّذي لا يكون محلاّ لشيء منهما أشدّ تجرّدا من المجرّد الّذي يكون محلاّ لأحدهما ، فانّ / ١١٥ DB / المجرّد الّذي قامت به صورة عقلية كلّية يكون أضعف تجرّدا ممّا لم يقم به تلك الصورة ، فكيف بالمجرّد الّذي تقوم به قوّة وجودية وخاصّة ثبوتية ويحتاج في انكشاف الأشياء إليها وإن كانت عرضية بالنسبة إلى مجرّد لم تقم به تلك القوّة. وحينئذ إذا كان التجرّد منشأ لصحّة التعقّل والمادّية مانعة عنه كيف يكون ما هو أقرب إلى المادّية وأضعف تجرّدا عاقلا ولا يكون ما هو أبعد عنها وأشدّ تجرّدا عاقلا؟!.
ويظهر ممّا ذكر انّ تحقّق قوّة في المجرّد زائدة على ذاته موجبة للانكشاف يوجب نقصان التجرّد بالنسبة إليه إذا لم توجد فيه تلك القوّة وكان ذاته مقتضيا للانكشاف ولا يمكن اقتضاءها لأشدّية التجرّد ـ كما أشير إليه آنفا ـ.