وأنت تعلم انّ قوله : « ولا تبالى بان تكون ذاته ـ ... إلى آخره ـ » صريح في اختياره المذهب الأوّل ، لانه قال أوّلا : « إن جعلت تلك الصور القائمة به اجزاء ذاته لزم التكثر وان جعلت لواحق ذاته لزم عدم كونه واجب الوجود من جهتها » ، وبعد ذلك صرّح بلزوم الاجتناب عن القول بما يوجب التكثّر ـ أعني : جعل تلك الصور اجزاء ذاته ـ وعدم المبالات بما يوجب عدم كونه واجب الوجود من جهته ـ أي : جهة تلك الصور لواحق ذاته ـ. وأورد ذلك مثالا. ولا ريب في انّ ذلك ـ أي : كون تلك الصور لواحق ذاته ـ إنّما يتأتّى على تقدير كونها مرتسمة في ذاته ، لا على تقدير المثل ، ولا على تقدير قيامها بالعقل أو النفس ، فاذا ضمّت هذه العبارة مع ما نقلناه أوّلا حصل الجزم بأنّ مذهبه في الشفا هو المذهب الرابع ؛ وحينئذ فلا حيرة في كلامه. وترديده بين الشقوق لا يدلّ على تحيره ، بل هو دأبه وعادته ـ كما لا يخفى على من له أدنى تتبّع بكلامه ـ.
وقال أيضا في الشفا : « ولا تظننّ انّه لو كانت المعقولات عنده كثيرة كانت كثرة الصور التى تعقلها اجزاء لذاته كيف وهى تكون ما بعد ذاته لانّ عقله لذاته ومنه يعقل كلّ ما بعده فعقله لذاته علّة عقله ما بعد ذاته وعقله ما بعد ذاته معلول عقله لذاته على انّ المعقولات والصور الّتي بعد ذاته انما هى معقولة على نحو المعقول الفعلى لا النفسانى وانما له إليها اضافة المبدأ الّتي تكون عنه لا فيه بل اضافات على الترتيب بعضها قبل بعض » (١) ؛ انتهى.
وهذه العبارة أيضا كسابقها تدلّ على العلم الحصولي ، فانّ غرضه انّ تعقّله لصور الأشياء المتكثّرة معلول لتعقّله لذاته. وهذه الصور المعقولة له ـ تعالى ـ وان كانت متكثّرة إلاّ أنّها لا توجب تكثّرا في ذاته ـ تعالى ـ ، لأنّها متأخّرة عن ذاته لا حقة له وليست داخلة في قوام ذاته ولا معدودة اجزاء لحقيقته ، لانّ ذاته من حيث تعقّله لذاته علّة لها. فهي من المعقولات العقلية الّتي له ـ تعالى ـ إليها اضافة المبدئية ـ أي : معقولة له على أنّها عنه / ١٣٥ DA / لا فيه ـ ، بل له إليها اضافات على الترتيب بعضها قبل بعض ،
__________________
(١) راجع : الشفا / الالهيات ، ص ٣٦٤.