من خلق الله غلاما منكما (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٤٠) لا يعجزه عنه شيء ولإظهار هذه القدرة العظيمة ألهمه السؤال ليجاب بها ولما تاقت نفسه إلى سرعة المبشر به (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة على حمل امرأتي (قالَ آيَتُكَ) عليه (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي تمتنع من كلامهم بخلاف ذكر الله تعالى (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي بلياليها (إِلَّا رَمْزاً) إشارة (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ) صل (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١) أواخر النهار وأوائله (وَ) اذكر (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي جبريل (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) اختارك (وَطَهَّرَكِ) من مسيس الرجال (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢) أي أهل زمانك (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أطيعيه (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
____________________________________
قوله : (كَذلِكَ) خبر لمحذوف قدره بقوله : (الأمر) وقوله من خلق غلام بيان لمرجع اسم الإشارة ، والكاف في كذلك يحتمل أن تكون صلة ، والمعنى قال الله الأمر ذلك ، واسم الإشارة راجع إلى خلق الولد ، ويحتمل أن تكون اصلية ، والمعنى قال الله الأمر كذلك أي كما قلت لا تغيير فيه ولا تبديل ، فاسم الإشارة راجع إلى القول. قوله : (ألهمه السؤال) أي بقوله أنى يكون لي غلام. قوله : (ليجاب بها) علة للإلهام وقوله ؛ (لإظهار) علة لقوله : (ليجاب) فهو علة مقدمة على معاولها. إن قلت : ما الحكمة في قوله في قصة زكريا الله يفعل الله يفعل ما يشاء ، وفي قصة مريم الله يخلق ما يشاء؟ قلت : الحكمة أن خرق العادة في عيسى أعظم من يحيى ، فإن عيسى لم يكن له أب مع كون أمه عذراء ، وأما يحيى فأبواه موجودان وإن كان هناك مانع من الحمل ، فعبر في جانب عيسى بالخلق الذي هو إنشاء واختراع دون الفعل. قوله : (ولما تاقت نفسه) أي اشتاقت.
قوله : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي لأزداد بها شكرا على ما أعطيتني وسرورا به. قوله : (وعلامة على حمل امرأتي) أي فإن الحمل في مبدئه خفي فطلب علامة على ظهور علوقها به. قوله : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي يأتيك مانع من الله يمنعك من الكلام بغير ذكر الله. قوله : (أي بلياليها) أخذ ذلك ممن يأتي في سورة مريم جمعا بين الموضعين والقصتين ، ومن ذلك اختار بعض أكابر الصوفية أن الخلوة مع الرياضة لبلوغ المراد ثلاثة أيام بلياليها ، يجعل ذكر الله فيها شعاره ودثاره ولا يتكلم فيها. قوله : (إِلَّا رَمْزاً) استثناء منقطع على التحقيق ، لأن الرمز لا يقال له كلام اصطلاحا وإن كان كلاما لغة ، لكن ليس مرادا هنا. قوله : (إشارة) أي وكانت بسبابته اليمنى. قوله : (اواخر النهار) راجع للعشي وقوله : (واوائلة) راجع للأبكار فهو لف ونشر مرتب ، وخص هذين الوقتين لفرضية الصلاة عليه فيهما.
قوله : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) عطف على قوله إذ قالت امرأة عمران ، والمناسبة بينهما ظاهرة ، فإن تلك قصة الأم وهذه قصة البنت ، وأما قصة زكريا فذكرت بينهما ، لأن رؤية العجائب في الأولى هي الحاملة لزكريا على طلب الولد. قوله : (أي جبريل) أشار بذلك إلى أنه من باب تسمية الخاص باسم العام تعظيما له. قوله : (يا مَرْيَمُ) الحكمة في أن الله لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا هي ، الإشارة بطرف خفي إلى رد ما قاله الكفار من أنها زوجته ، فإن العظيم على الهمة يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس : فكأن الله يقول لو كانت زوجة لي لما صرحت باسمها. قوله : (من مسيس الرجال) أي ومن الحيض والنفاس وكل قذر. قوله : (أي أهل زمانك) اشار بذلك إلى أن العالمين عام مخصوص بما عدا