خلوف فمه فاستاك فأمره الله بعشرة أخرى ليكلمه بخلوف فمه كما قال تعالى (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) من ذي الحجة (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) وقت وعده بكلامه إياه (أَرْبَعِينَ) حال (لَيْلَةً) تمييز (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ) عند ذهابه إلى الجبل للمناجاة (اخْلُفْنِي) كن خليفتي (فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) أمرهم (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٤٢) بموافقتهم على المعاصي (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) أي للوقت الذي وعدناه بالكلام فيه (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة (قالَ رَبِّ أَرِنِي) نفسك (أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) أي لا تقدر على رؤيتي والتعبير به دون لن أرى يفيد
____________________________________
فرعون ، أن يأتيهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما أهلك الله فرعون ، سأل موسى ربه أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل ، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها ، فلما تمت أنكر خلوف فمه ، فاستاك بعود خرنوب ، وقيل أكل من ورق الشجر ، فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ، فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة ، فكان فتنة بني إسرائيل في تلك العشر قوله : (أنكر خلوف فمه) أي كره رائحة فمه من أثر الصوم ، وهو بضم الخاء واللام معنا والرائحة. قوله : (وَأَتْمَمْناها) أي المواعدة المأخوذة من قوله : (وَواعَدْنا). قوله : (أَرْبَعِينَ) (حال) أي من ميقات.
قوله : (وَقالَ مُوسى) الواو لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا ، لأن تلك الوصية كانت قبل ذهابه وصيامه. قوله : (وَأَصْلِحْ) (أمرهم) أي أمر بني إسرائيل ولا تغفل عنهم. قوله : (لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) قال أهل التفسير : لما جاء موسى لميقات ربه ، تطهر طهر ثيابه وصام ، ثم أتى طور سيناء ، فأنزل الله ظلة غشيت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية ، وطرد عنه الشيطان وهو أم الأرض ، ونحى عنه المكلفين ، وكشط له السماء ، فرأى الملائكة قياما في الهواء ، ورأى العرش بارزا ، وأدناه ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح وكلمه وكان جبريل معه ، فلم يسمع ذلك الكلام ، فاستحلى موسى كلام ربه ، فاشتاق إلى رؤيته ، فقال : (رَبِّ أَرِنِي) الخ. قوله : (أي للوقت) أي وكان يوم الخميس يوم عرفة ، فكلمه الله فيه وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر. قوله : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أي أزال الحجاب عنه ، حتى سمع كلامه بجميع أجزائه من جميع جهاته ، لا أن الله أنشأ له الكلام ، لأن الله سبحانه وتعالى دائما متكلم يستحيل عليه السكوت والآفة ، ولم يصل لنا معنى ما فهمه موسى من تلك المكالمة.
قوله : (قالَ رَبِّ أَرِنِي) لما سمع الكلام هام واشتاق إلى رؤية الذات ، فسأل الله أن يزيل عنه حجاب البصر ، كما أزال الله عنه حجاب السمع ، إذ لا فرق بين الحاستين ، فقد سأل جائزا لأن كل من جاز سماع كلامه جازت رؤية ذاته. قوله : (نفسك) قدره إشارة إلى أن مفعول أرني محذوف. قوله : (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) جواب الشرط ، ولا يقال إن الشرط قد اتحد مع الجواب ، لأن المعنى هيئني لرؤيتك ومكني منها ، فإن تفعل بي ذلك أنظر إليك. قوله : (لَنْ تَرانِي) أي لا طاقة لك على رؤيتي في الدنيا ، وهذا لا يقتضي أنها مستحيلة عقلا ، وإلا لما علقت على جائز وهو استقرار الجبل.