كما زين للمؤمنين الإيمان (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢) من الكفر والمعاصي (وَكَذلِكَ) كما جعلنا فساق مكة أكابرها (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) بالصد عن الإيمان (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأن وباله عليهم (وَما يَشْعُرُونَ) (١٢٣) بذلك (وَإِذا جاءَتْهُمْ) أي أهل مكة (آيَةٌ) على صدق النبي صلىاللهعليهوسلم (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ) به (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) من الرسالة والوحي إلينا لأنا أكثر مالا وأكبر سنا قال تعالى (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
____________________________________
الضعفاء والمعارضين المنكرين الكبراء ، ليكون عز الرسل بربهم ظاهرا وباطنا ، وكل آية وردت في ذم الكفار تجر بذيلها على عصاة المؤمنين ، فإن المباشر للظلم والفجور أكابر كل قرية ومدينة كما هو مشاهد. قوله : (فساق مكة) هو معنى مجرميها ، وحل المفسر يفيد أن مجرميها مفعول أول مؤخر ، وأكابر مفعول ثان مقدم ، وفي كل قرية ظرف لغو متعلق بجعلنا ، وهو أحد أعاريب أربعة ، الثاني : أن قوله في كل قرية مفعول ثان مقدم ، وأكابر مفعول أول مؤخر وهو مضاف لمجرميها ، وأخر المفعول الأول لأن فيه ضميرا يعود على المفعول الثاني ، فلو قدم لعاد الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، وقد أشار ابن مالك لذلك بقوله :
كذا إذا عاد عليه مضمر |
|
مما به عنه مبينا يخبر |
فيصير المعنى وكذلك جعلنا عظماء المجرمين كائنين في كل قرية. الثالث : أن في كل مفعول ثان ، وأكابر مفعول أول ، ومجرميها بدل من أكابر ، ولم يضف لئلا يلزم عليه إضافة الصفة للموصوف وهو لا يجوز عند البصريين. الرابع : أن أكابر مفعول أول مضاف لمجرميها ، وفي كل قرية ظرف لغو متعلق بجعلنا ، والمفعول الثاني محذوف تقديره فساقا ، ورد بأن هذا التقدير لا فائدة فيه ولا محوج له ، فالأحسن الثلاثة الأول. قوله : (لِيَمْكُرُوا فِيها) اللام إما لام العاقبة والصيرورة نظير (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) ، أو لام العلة بمعنى الحكمة ، وأما قولهم تنزه الله عن العلة ، فمعناه العلة الباعثة على الفعل ليتكمل به ، وأما الحكم فلا تخلو أفعال الله عنها ، (سبحانك ما خلقت هذا عبثا) والمكر والخديعة والحيلة والغدر والفجور وترويج الباطل ، وهذه الأشياء لا تقبل عادة إلا من الكبراء. قوله : (بالصد عن الإيمان) أي لما ورد أن كل طريق من طرق مكة كان يجلس عليه أربعة ، يصرفون الناس عن الإيمان بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، ويقولون هو كذاب ساحر كاهن. قوله : (لأن وباله عليهم) أي وبال مكرهم لاحق بهم ، قال تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وقال أيضا : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) الآية. قوله : (وَما يَشْعُرُونَ) (بذلك) أي لم يعلموا بأن وباله عليهم.
قوله : (إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) نزلت في الوليد بن المغيرة حيث قال للنبي : لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك ، لأني أكبر سنا وأكثر منك مالا ، وقيل في أبي جهل حيث قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف ، حتى صرنا كفرسي رهان ، قالوا منا نبي يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا ، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. قوله : (آيَةٌ) أي معجزة ، كانشقاق القمر ، وحنين الجذع ، ونبع الماء. قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ) أي نصدق برسالته. قوله : (مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) قال بعضهم : يسن الوقف عليه هنا ، ويستجاب الدعاء بين هاتين الجلالتين ، وذكر بعضهم له دعاء مخصوصا وهو : اللهم من الذي دعاك فلم تجبه ، ومن الذي استجارك فلم تجره ، ومن الذي سألك فلم تعطه ، ومن الذي استعان بك فلم تعنه ،