مِنْكُمْ) أيها الأمم (شِرْعَةً) شريعة (وَمِنْهاجاً) طريقا واضحا في الدين يمشون عليه (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) على شريعة واحدة (وَلكِنْ) فرقكم فرقا (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) من الشرائع المختلفة لينظر المطيع منكم والعاصي (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) سارعوا إليها (إِلَى اللهِ) مرجعكم جميعا بالبعث (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨) من أمر الدين ويجزي كلا منكم بعمله (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنِ) لا (يَفْتِنُوكَ)
____________________________________
لأهوائهم بأن يحكم بها ويترك ما أنزل الله. قوله : (مِنَ الْحَقِ) بيان لما. قوله : (أيها الأمم) أي من لدن آدم إلى محمد ، فكل أمة لها شرع مختص بها ، والاختلاف إنما هو في الفروع لا الأصول ، فكل ما ورد دالا على اختلاف الشرائع كهذه الآية ، فباعتبار الفروع وما ورد دالا على الاتحاد ، كقوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فمحمول على الأصول. قوله : (شِرْعَةً) أي أحكاما شرعها وبيّنها للتعبد بها ، والشريعة في كلام العرب مورد الماء الذي يقصد للشرب منه ، استعير للطريقة الإلهية ، قال بعضهم : للشريعة والمنهاج عبارة عن معنى واحد ، التكرار للتأكيد. قوله : (أُمَّةً واحِدَةً) أي جماعة متفقة على دين واحد من غير نسخ.
قوله : (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) هذا هو حكمة تفرق الشرائع في الفروع. قوله : (لينظر المطيع) أي ليظهر أمر المطيع من العاصي. قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي بادروا إلى وجوه البر والطاعات قوله : (جميعا) حال من الكاف في مرجعكم ، ولا يقال هو حال من المضاف إليه وهو لا يجوز ، لأنه يقال المضاف مقتض للعمل في المضاف إليه ، قال ابن مالك :
ولا تجز حالا من المضاف له |
|
إلّا إذا اقتضى المضاف عمله |
قوله : (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم بالذي كنتم تختلفون فيه ، فيترتب على ذلك الثواب للمطيع والعقاب للعاصي.
قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) الواو حرف عطف ، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر معطوف على الكتاب ، التقدير وأنزلنا إليك الكتاب والحكم والفعل وإن كان أمرا لفظا ، إلا أنه في معنى المضارع ليفيد استمرار الحكم ، وليس هذا مكررا مع قوله فاحكم بينهم بما أنزل الله ، لأن ما تقدم في شأن رجم المحصنين ، وما هنا في شأن الدماء والديات ، لأن سبب نزولها ، أن بني النضير كانوا إذا قتلوا من قريظة قتيلا أعطوهم سبعين وسقا من تمر ، وإذا قتلت قريظة قتيلا من بني النضير أعطوهم مائة وأربعين وسقا ، فقال لهم رسول الله : «أنا احكم أن دم القرظي كدم النضري ، ليس لأحدهم فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة» ، فغضب بنو النضير وقالوا لا نرضى بحكمك فإنك تريد صغارنا.
قوله : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) سبب نزولها ، أن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا ، وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك ، فاقض لنا عليهم نؤمن بك ونصدقك ، فأبى رسول الله ، فنزلت الآية ، وقوله : (أَنْ يَفْتِنُوكَ) مفعول لأجله على تقدير لام العلة ولا النافية ، وهو ما مشى عليه المفسر ، ويحتمل أنه بدل اشتمال من الهاء في احذرهم ، والمعنى احذرهم فتنتهم ، والخطاب له صلىاللهعليهوسلم ، والمراد غيره لعصمته من الفتنة.